الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (60) قوله: وإذ قال موسى : "إذ" منصوب ب "اذكر"، أو وقت قال لفتاه جرى ما قصصنا عليك من خبره.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لا أبرح" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن تكون ناقصة فتحتاج إلى خبر. والثاني: أن تكون تامة فلا تحتاج إليه. فإن كانت الناقصة ففيها تخريجان، أحدهما: أن يكون الخبر محذوفا للدلالة عليه تقديره: لا أبرح أسير حتى أبلغ، إلا أن حذف الخبر في هذا الباب نص بعض النحويين على أنه لا يجوز ولو بدليل، إلا في ضرورة كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3177 - لهفي عليك للهفة من خائف يبغي جوارك حين ليس مجير

                                                                                                                                                                                                                                      أي: حين ليس في الدنيا مجير. والثاني: أن في الكلام حذف مضاف تقديره: لا يبرح مسيري حتى أبلغ، ثم حذف "مسير" وأقيمت الياء مقامه، فانقلبت مرفوعة مستترة بعد أن كانت مخفوضة المحل بارزة، وبقي "حتى أبلغ" على حاله هو الخبر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 518 ] وقد خلط الزمخشري هذين الوجهين فجعلهما وجها واحدا، ولكن في عبارة حسنة جدا، فقال: "فإن قلت: "لا أبرح" إن كان بمعنى "لا أزول" من برح المكان فقد دل على الإقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى "لا أزال" فلا بد من خبر. قلت: هي بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لأن الحال والكلام معا يدلان عليه: أما الحال فلأنها كانت حال سفر، وأما الكلام فإن قوله: "حتى أبلغ" غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له، فلا بد أن يكون المعنى: [لا أبرح أسير حتى أبلغ. ووجه آخر وهو أن يكون المعنى:] لا يبرح مسيري حتى أبلغ على أن "حتى أبلغ" هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل من ضمير الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: وهذا على حسنه فيه نظر لا يخفى وهو: خلو الجملة الواقعة خبرا عن "مسيري" في الأصل من رابط يربطها به. ألا ترى أنه ليس في قوله "حتى أبلغ" ضمير يعود على "مسيري" إنما يعود على المضاف إليه المستتر، ومثل ذلك لا يكتفى به.

                                                                                                                                                                                                                                      ويمكن أن يجاب عنه: بأن العائد محذوف، تقديره: حتى أبلغ به، أي: بمسيري.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كانت التامة كان المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى ألزم المسير والطلب، ولا أفارقه ولا أتركه، حتى أبلغ، كما تقول: لا أبرح المكان. قلت: فعلى هذا يحتاج أيضا إلى حذف مفعول به كما تقدم تقريره، فالحذف لا بد منه على تقديري التمام والنقصان في أحد وجهي النقصان.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 519 ] وقرأ العامة "مجمع" بفتح الميم وهو مكان الاجتماع، وقيل: مصدر. وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار بكسرها، وهو شاذ، لفتح عين مضارعه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "حقبا" منصوب على الظرف وهو بمعنى الدهر. وقيل: ثمانون سنة. وقيل: سنة واحدة بلغة قريش. وقيل: سبعون. وقرأ الحسن: "حقبا" بإسكان القاف فيجوز أن يكون تخفيفا، وأن يكون لغة مستقلة. ويجمع على "أحقاب" كعنق وأعناق. وفي معناه الحقبة بالكسر. قال امرؤ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      3178 - فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها     فإنك مما أحدثت بالمجرب

                                                                                                                                                                                                                                      والحقبة بالضم أيضا. وتجمع الأولى على حقب بكسر الحاء كقرب، والثانية على حقب بضمها كقرب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "أو أمضي" فيه وجهان، أظهرهما: أنه منسوق على "أبلغ" يعني [ ص: 520 ] بأحد أمرين: إما ببلوغه المجمع، أو بمضيه حقبا. والثاني: أنه تغيية لقوله لا أبرح، فيكون منصوبا بإضمار "أن" بعد "أو" بمعنى "إلى" نحو: "لألزمنك أو تقضيني حقي".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "فالمعنى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين، إلى أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات مجمع البحرين". قلت: فيكون الفعل المنفي قد غيي بغايتين مكانا وزمانا، فلا بد من حصولهما معا نحو: "لأسيرن إلى بيتك إلى الظهر"، فلا بد من حصول الغايتين. والمعنى الذي ذكره الشيخ يقتضي أنه يمضي زمانا يتيقن فيه فوات مجمع البحرين.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل أبو البقاء "أو" هنا بمعنى "إلا" في أحد الوجهين، قال: "والثاني: أنها بمعنى: إلا أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات مجمع البحرين". وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنى صحيح، فأخذ الشيخ هذا المعنى، ركبه مع القول بأنها بمعنى "إلى" المقتضية للغاية، فمن ثم جاء الإشكال.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية