الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (36) قوله تعالى: ولا تقف : العامة على هذه القراءة، أي: لا تتبع، من قفاه يقفوه إذا تتبع أثره، قال النابغة:


                                                                                                                                                                                                                                      3062 - ومثل الدمى شم العرانين ساكن بهن الحياء لا يشعن التقافيا

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكميت:


                                                                                                                                                                                                                                      3063 - فلا أرمي البريء بغير ذنب     ولا أقفو الحواصن إن قفينا

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ زيد بن علي: "ولا تقفو" بإثبات الواو، وقد تقدم أن إثبات حرف [ ص: 352 ] العلة جزما لغة قوم، وضرورة عند غيرهم كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      3064 - ... ... ... ...     من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ معاذ القارئ: "ولا تقف" بزنة تقل، من قاف يقوف، أي: تتبع أيضا، وفيه قولان: أحدهما: أنه مقلوب من قفا يقفو، والثاني: وهو الأظهر - أنه لغة مستقلة جيدة كجبذ وجذب، لكثرة الاستعمالين، ومثله: قعا الفحل الناقة وقاعها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "والفؤاد" قرأ الجراح العقيلي بفتح الفاء وواو خالصة. وتوجيهها: أنه أبدل الهمزة واوا بعد الضمة في القراءة المشهورة، ثم فتح فاء الكلمة بعد البدل لأنها لغة في الفؤاد، يقال: فؤاد وفآد، وأنكرها أبو حاتم، أعني القراءة، وهو معذور.

                                                                                                                                                                                                                                      والباء في "به" متعلقة بما تعلق به "لك" ولا تتعلق ب "علم" لأنه مصدر، إلا عند من يتوسع في الجار.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أولئك" إشارة إلى ما تقدم من السمع والبصر والفؤاد كقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 353 ]

                                                                                                                                                                                                                                      3065 - ذم المنازل بعد منزلة اللوى     والعيش بعد أولئك الأيام

                                                                                                                                                                                                                                      ف "أولئك" يشار به إلى العقلاء وغيرهم من الجموع. واعتذر ابن عطية عن الإشارة به لغير العقلاء فقال: "وعبر عن السمع والبصر والفؤاد ب "أولئك" لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل، ولذلك عبر عنها بكناية من يعقل، وقد قال سيبويه -رحمه الله- في قوله: رأيتهم لي ساجدين إنما قال: "رأيتهم" في نجوم; لأنه لما وصفها بالسجود -وهو فعل من يعقل- عبر عنها بكناية من يعقل. وحكى الزجاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعمن لا يعقل ب "أولئك"، وأنشد هو والطبري:


                                                                                                                                                                                                                                      ذم المنازل بعد منزلة اللوى     والعيش بعد أولئك الأيام

                                                                                                                                                                                                                                      وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية فيه "الأقوام". ولا حاجة إلى هذا الاعتذار لما عرفت. وأما قوله: إن الرواية: "الأقوام" فغير معروفة والمعروف إنما هو "الأيام".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: كل أولئك مبتدأ، والجملة من "كان" خبره، وفي اسم "كان" وجهان، أحدهما: أنه عائد على "كل" باعتبار لفظها، وكذا الضمير [ ص: 354 ] في "عنه"، و "عنه" متعلق ب "مسئولا"، و "مسئولا" خبرها.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن اسمها ضمير يعود على القافي، وفي "عنه" يعود على "كل" وهو من الالتفات; إذ لو جرى على ما تقدم لقيل: كنت عنه مسئولا. وقال الزمخشري : و "عنه" في موضع الرفع بالفاعلية، أي: كل واحد كان مسئولا عنه، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله: غير المغضوب عليهم . انتهى. وفي تسميته مفعول ما لم يسم فاعله فاعلا خلاف الاصطلاح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد الشيخ عليه قوله: بأن القائم مقام الفاعل حكمه حكمه، فلا يتقدم على رافعه كأصله. وليس لقائل أن يقول: يجوز على رأي الكوفيين فإنهم يجيزون تقديم الفاعل; لأن النحاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا ومجرورا، فليس هو نظير قوله: غير المغضوب عليهم فحينئذ يكون القائم مقام الفاعل الضمير المستكن العائد على "كل" أو على القافي.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية