الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (12) قوله تعالى: لنعلم : متعلق بالبعث. والعامة على نون العظمة جريا على ما تقدم. وقرأ الزهري: "ليعلم" بياء الغيبة، والفاعل الله [ ص: 448 ] تعالى. وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة. ويجوز أن يكون الفاعل أي الحزبين إذا جعلناها موصولة كما سيأتي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "ليعلم" مبنيا للمفعول، والقائم مقام الفاعل: قال الزمخشري : "مضمون الجملة، كما أنه مفعول العلم". ورده الشيخ بأنه ليس مذهب البصريين. وتقدم تحقيق هذه أول البقرة. وللكوفيين في قيام الجملة مقام الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله: الجواز مطلقا، والتفصيل بين ما يعلق كهذه الآية فيجوز، فالزمخشري نحا نحوهم على قوليهم. وإذا جعلنا: أي الحزبين موصولة جاز أن يكون الفعل مسندا إليه في هذه القراءة أيضا كما جاز إسناده إليه في القراءة قبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "ليعلم" بضم الياء، والفاعل الله تعالى، والمفعول الأول محذوف، تقديره: ليعلم الله الناس. و أي الحزبين في موضع الثاني فقط، إن كانت عرفانية، وفي موضع المفعولين إن كانت يقينية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أحصى" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه أفعل تفضيل. وهو خبر ل "أيهم"، و "أيهم"، استفهامية. وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها. و "لما [ ص: 449 ] لبثوا" حال من "أمدا"، لأنه لو تأخر عنه لكان نعتا له. ويجوز أن تكون اللام على بابها من العلة، أي: لأجل، قاله أبو البقاء. ويجوز أن تكون زائدة، و "ما" مفعولة: إما ب "أحصى" على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به، وإما بإضمار فعل. و "أمدا" مفعول "لبثوا" أو منصوب بفعل مقدر يدل عليه أفعل عند الجمهور، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الثاني: أن يكون "أحصى" فعلا ماضيا. و "أمدا" مفعوله، و: "لما لبثوا" متعلق به، أو حال من "أمدا" أو اللام فيه مزيدة، وعلى هذا: فأمدا منصوب ب "لبثوا". و "ما" مصدرية أو بمعنى الذي. واختار الأول - أعني كون "أحصى" للتفضيل - الزجاج والتبريزي، واختار الثاني أبو علي والزمخشري وابن عطية. قال الزمخشري : فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي ليس بقياس، ونحو: "أعدى من الجرب" و "أفلس من ابن المذلق" شاذ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به؟ ولأن "أمدا": إما أن ينتصب بأفعل، وأفعل لا يعمل، وإما أن ينتصب ب "لبثوا" فلا يسد عليه المعنى: فإن زعمت أني أنصبه بفعل مضمر كما أضمر في قوله: [ ص: 450 ]

                                                                                                                                                                                                                                      3129 - ... ... ... ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أبعدت المتناول، حيث أبيت أن يكون ["أحصى"] فعلا ثم رجعت مضطرا إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وناقشه الشيخ قال: أما دعواه أنه شاذ فمذهب سيبويه خلافه، وذلك أن أفعل فيه ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقا، ويعزى لسيبويه، والمنع مطلقا، وهو مذهب الفارسي، والتفصيل: بين أن تكون همزته للتعدية فيمتنع، وبين أن لا تكون فيجوز، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية. وأما قوله: "أفعل لا يعمل" فليس بصحيح لأنه يعمل في التمييز، و "أمدا" تمييز لا مفعول به، كما تقول: "زيد أقطع الناس سيفا، وزيد أقطع للهام سيفا".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: الذي أحوج الزمخشري إلى عدم جعله تمييزا مع ظهوره في بادئ الرأي عدم صحة معناه. وذلك أن التمييز شرطه في هذا الباب أن تصح نسبة ذلك الوصف الذي قبله إليه ويتصف به، ألا ترى إلى مثاله في قوله: "زيد أقطع الناس سيفا" كيف يصح أن يسند إليه فيقال: زيد قطع سيفه، وسيفه قاطع، إلى غير ذلك. وهنا ليس الإحصاء من صفة الأمد، ولا تصح نسبته إليه، وإنما هو من صفات الحزبين، وهو دقيق.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الشيخ نقل عن أبي البقاء نصبه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله "أحصى" أفعل تفصيل، وإنما ذكر ذلك حين [ ص: 451 ] ذكر أنه فعل ماض. قال أبو البقاء: في "أحصى" وجهان، أحدهما: هو فعل ماض، "وأمدا" مفعوله، و "لما لبثوا" نعت له، قدم فصار حالا أو مفعولا له، أي: لأجل لبثهم. وقيل: اللام زائدة و "ما" بمعنى الذي، و "أمدا" مفعول "لبثوا" وهو خطأ، وإنما الوجه أن يكون تمييزا والتقدير: لما لبثوه. والوجه الثاني: هو اسم و "أمدا" منصوب بفعل دل عليه الاسم. انتهى. فهذا تصريح بأن "أمدا" حال جعله "أحصى" اسما ليس تمييزا بل مفعولا به بفعل مقدر، وأنه جعله تمييزا عن "لبثوا" كما رأيت.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الشيخ: وأما قوله: وإما أن ينصب ب "لبثوا" فلا يسد عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديدا، فقد ذهب الطبري إلى أنه منصوب ب "لبثوا". قال ابن عطية: "وهو غير متجه". انتهى. وقد يتجه: وذلك أن الأمد هو الغاية، ويكون عبارة عن المدة من حيث إن المدة غاية هي أمد المدة على الحقيقة، و "ما" بمعنى الذي، و "أمدا" منصوب على إسقاط الحرف، وتقديره: لما لبثوا من أمد، من مدة، ويصير "من أمد" تفسيرا لما أبهم من لفظ: "ما" كقوله: ما ننسخ من آية ، ما يفتح الله للناس من رحمة ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 452 ] قلت: يكفيه أن مثل ابن عطية جعله غير متجه، وعلى تقدير ذلك فلا نسلم أن الطبري عنى نصبه بلبثوا مفعولا به بل يجوز أن يكون على نصبه تمييزا كما قاله أبو البقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: وأما قوله: "فإن زعمت إلى آخره"، فتقول: لا يحتاج إلى ذلك، لأن لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين في أنه ينصب "القوانس" بنفس "أضرب" ولذلك جعل بعض النحاة أن "أعلم" ناصب ل "من" في قوله: "أعلم من يضل"، وذلك لأن أفعل مضمن لمعنى المصدر إذ التقدير: "يزيد ضربنا القوانس على ضرب غيرنا".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: هذا مذهب مرجوح، وأفعل التفصيل ضعيف، ولذلك قصر عن الصفة المشبهة باسم الفاعل، حيث لم يؤنث ولم يثن ولم يجمع.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا جعلنا "أحصى" اسما، فجوز الشيخ في "أي" أن تكون الموصولة، و "أحصى" خبر لمبتدأ محذوف هو عائدها، وأن الضمة للبناء على مذهب سيبويه لوجود شرط البناء وهو إضافتها لفظا، وحذف صدر صلتها، وهذا إنما يكون على جعل العلم بمعنى العرفان، لأنه ليس في الكلام إلا مفعول واحد، وتقدير آخر لا حاجة إليه. إلا أن في إسناد "علم" بمعنى عرف إلى الله تعالى، إشكالا تقدم تحريره في الأنفال وغيرها. وإذا جعلناه فعلا امتنع أن تكون موصولة إذ لا وجه لبنائها حينئذ وهو حسن.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية