الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (57) قوله تعالى: أولئك الذين يدعون : "أولئك" مبتدأ، وفي خبره وجهان، أظهرهما: أنه الجملة من "يبتغون" ويكون الموصول نعتا أو بيانا أو بدلا، والمراد باسم الإشارة الأنبياء الذين عبدوا من دون الله. والمراد بالواو العباد لهم، ويكون العائد على "الذين" محذوفا، والمعنى: أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون لكشف ضرهم -أو يدعونهم آلهة، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان -يبتغون.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن يكون المراد بالواو ما أريد بأولئك، أي: أولئك الأنبياء الذين يدعون ربهم أو الناس إلى الهدى يبتغون، فمفعول "يدعون" محذوف.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن الخبر نفس الموصول، و "يبتغون" على هذا حال من فاعل "يدعون" أو بدل منه. وقرأ العامة: "يدعون" بالغيب، وقد تقدم الخلاف في الواو: هل تعود على الأنبياء أو على عابديهم. وزيد بن علي بالغيبة أيضا، إلا أنه بناه للمفعول. وقتادة وابن مسعود بتاء الخطاب. وهاتان القراءتان تقويان أن الواو للمشركين لا للأنبياء في قراءة العامة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أيهم أقرب في "أي" هذه وجهان، أحدهما: أنها استفهامية. [ ص: 373 ] والثاني: أنها موصولة بمعنى الذي، وإنما كثر كلام المعربين فيها من حيث التقدير. فقال الزمخشري : "وأيهم بدل من واو "يبتغون" و "أي" موصولة، أي: يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف، أو ضمن [يبتغون] الوسيلة معنى يحرصون، فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب". قلت: فجعلها في الوجه الأول موصولة، وصلتها جملة من مبتدأ وخبر، حذف المبتدأ وهو عائدها، و "أقرب" خبر "هو" واحتملت "أي" حينئذ أن تكون مبنية، وهو الأكثر فيها، وأن تكون معربة، ولهذا موضع هو أليق به في مريم. وفي الثاني جعلها استفهامية بدليل أنه ضمن الابتغاء معنى شيء يعلق وهو "يحرصون"، فيكون "أيهم" مبتدأ و "أقرب" خبره، والجملة في محل نصب على إسقاط الخافض; لأن "يحرص" يتعدى ب "على" قال تعالى: إن تحرص على هداهم ، أحرص الناس على حياة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء: "أيهم" مبتدأ، و "أقرب" خبره وهو استفهام في موضع نصب ب "يدعون"، ويجوز أن يكون "أيهم" بمعنى الذي، وهو بدل من الضمير في "يدعون".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "علق "يدعون" وهو ليس فعلا قلبيا، وفي الثاني فصل [ ص: 374 ] بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة. قلت: أما كون "يدعون" لا يعلق هو مذهب الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال يونس: يجوز تعليق الأفعال مطلقا، القلبية وغيرها. وأما قوله: "فصل بالجملة الحالية" يعني بها "يبتغون" فصل بها بين "يدعون" الذي هو صلة "الذين" وبين معموله وهو: أيهم أقرب لأنه معلق عنه كما عرفته، إلا أن الشيخ لم يتقدم في كلامه إعراب "يبتغون" حالا، بل لم يعربها إلا خبرا للموصول، وهذا قريب.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل أبو البقاء أيا الموصولة بدلا من واو "يدعون" ولم أر أحدا وافقه على ذلك، بل كلهم يجعلونها من واو "يبتغون" وهو الظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحوفي: "أيهم أقرب" ابتداء وخبر، والمعنى: ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به، ويجوز أن يكون: "أيهم أقرب" بدلا من واو "يبتغون". قلت: فقد أضمر فعلا معلقا وهو "ينظرون"، فإن كان من نظر البصر تعدى ب "إلى"، وإن كان من نظر الفكر تعدى ب "في"، فعلى التقديرين الجملة الاستفهامية في موضع نصب بإسقاط الخافض، وهذا إضمار ما لا حاجة إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: و "أيهم" ابتداء، و "أقرب" خبره، والتقدير: نظرهم ووكدهم أيهم أقرب، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها"، أي: يتبارون في القرب". قال الشيخ: [ ص: 375 ] "فجعل المحذوف "نظرهم ووكدهم" وهذا مبتدأ، فإن جعلت: أيهم أقرب في موضع نصب ب "نظرهم" بقي المبتدأ بلا خبر، فيحتاج إلى إضمار خبر، وإن جعلت: أيهم أقرب [هو] الخبر لم يصح; لأن نظرهم ليس هو أيهم أقرب، وإن جعلت التقدير: نظرهم في أيهم أقرب، أي: كائن أو حاصل، لم يصح ذلك; لأن كائنا وحاصلا ليس مما يعلق".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: فقد تحصل في الآية الكريمة ستة أوجه، أربعة حال جعل "أي" استفهاما. الأول: أنها معلقة للوسيلة كما قرره الزمخشري . الثاني: أنها معلقة ل "يدعون" كما قاله أبو البقاء. الثالث: أنها معلقة ل "ينظرون" مقدرا، كما قاله الحوفي. الرابع: أنها معلقة ل "نظرهم" كما قدره ابن عطية. واثنان حال جعلها موصولة، الأول: البدل من واو "يدعون" كما قاله أبو البقاء. الثاني: أنها بدل من واو "يبتغون" كما قاله الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية