الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (47) قوله تعالى: بما يستمعون : متعلق ب "أعلم". وما كان من باب العلم والجهل في أفعل التفضيل وأفعل في التعجب تعدى بالباء نحو: أنت أعلم به، وما أعلمك به!! وهو أجهل به، وما أجهله به!! ومن غيرهما يتعدى في البابين باللام نحو: أنت أكسى للفقراء. و "ما" بمعنى الذي، وهي عبارة عن الاستخفاف والإعراض فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به. قاله ابن عطية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "به" فيه أوجه، أحدها: أنه حال، فيتعلق بمحذوف. قال الزمخشري : "وبه في موضع الحال كما [تقول:] يستمعون بالهزء، أي: هازئين". الثاني: أنها بمعنى اللام، أي: بما يستمعون له. الثالث: [ ص: 365 ] أنهما على بابها، أي: يستمعون بقلوبهم أو بظاهر أسماعهم، قالهما أبو البقاء. الرابع: قال الحوفي: "لم يقل يستمعونه ولا يستمعونك; لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط، وكان مضمنا أن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا: مجنون أو مسحور جاء الاستماع به وإلى، ليعلم أن الاستماع ليس المراد به تفهم المسموع دون هذا المقصد"، فعلى هذا أيضا تتعلق الباء ب "يستمعون".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إذ يستمعون" فيه وجهان: أحدهما: أنه معمول ل "أعلم". قال الزمخشري : "إذ يستمعون نصب ب "أعلم"، أي: أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون، وبما يتناجون به، إذ هم ذوو نجوى". والثاني: أنه منصوب ب "يستمعون" الأولى. قال ابن عطية: والعامل في "إذ" الأولى وفي المعطوف "يستمعون" الأول. وقال الحوفي: ف "إذ" الأولى تتعلق ب "يستمعون" وكذا: وإذ هم نجوى لأن المعنى: نحن أعلم بالذي يستمعون إليك وإلى قراءتك وكلامك، إنما يستمعون لسقطك، وتتبع عيبك، والتماس ما يطعنون به عليك، يعني في زعمهم; ولهذا ذكر تعديته بالباء و "إلى".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "نجوى" يجوز أن يكون مصدرا فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة، أو على حذف مضاف، أي: ذوو نجوى، كما قاله الزمخشري . ويجوز أن يكون جمع نجي كقتيل وقتلى. قاله أبو البقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 366 ] قوله: إذ يقول بدل من "إذ" الأولى في أحد القولين، والقول الآخر: أنها معمولة ل "اذكر" مقدرا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "مسحورا" الظاهر أنه اسم مفعول من "السحر" بكسر السين، أي: مخبول العقل أو مخدوعه. وقال أبو عبيدة: "معناه أن له سحرا" أي: رئة بمعنى أنه لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو بشر مثلكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وتقول العرب للجبان: "قد انتفخ سحره" بفتح السين، ولكل من أكل وشرب: مسحور، ومسحر. فمن الأول قول امرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      3069 - أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب

                                                                                                                                                                                                                                      أي: نغذى ونعلل. ومن الثاني قول لبيد:


                                                                                                                                                                                                                                      3070 - فإن تسألينا فيم نحن فإننا     عصافير من هذا الأنام المسحر

                                                                                                                                                                                                                                      ورد الناس على أبي عبيدة قوله لبعده لفظا ومعنى. قال ابن قتيبة: "لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع ما فسره السلف بالوجوه الواضحة". قلت: وأيضا فإن "السحر" الذي هو الرئة لم يضرب له فيه مثل بخلاف "السحر"، فإنهم ضربوا له فيه المثل، فما بعد الآية من قوله: انظر كيف ضربوا لك الأمثال لا يناسب إلا "السحر" بالكسر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية