الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (283) قوله تعالى: ولم تجدوا كاتبا : العامة على "كاتبا" اسم فاعل. وقرأ أبي ومجاهد وأبو العالية: "كتابا"، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مصدر أي ذا كتابة. والثاني: أنه جمع كاتب، كصاحب وصحاب. ونقل الزمخشري هذه القراءة عن أبي وابن عباس فقط، وقال: "وقال ابن [ ص: 678 ] عباس: أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة". وقرأ ابن عباس والضحاك: "كتابا" على الجمع، اعتبارا بأن كل نازلة لها كاتب. وقرأ أبو العالية: "كتبا" جمع كتاب، اعتبارا بالنوازل، قلت: قول ابن عباس: "أرأيت إن وجدت الكاتب إلخ" ترجيح للقراءة المروية عنه واستبعاد لقراءة غيره "كاتبا"، يعني أن المراد الكتاب لا الكاتب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فرهان" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مرفوع بفعل محذوف، أي: فيكفي [عن] ذلك رهن مقبوضة. الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوف أي: فرهن مقبوضة تكفي. الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالوثيقة أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: "فرهن" بضم الراء والهاء، والباقون "فرهان" بكسر الراء وألف بعد الهاء، روي عن ابن كثير وأبي عمرو تسكين الهاء في رواية.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة ابن كثير فجمع رهن، وفعل يجمع على فعل نحو: سقف وسقف. ووقع في أبي البقاء بعد قوله: "وسقف وسقف، وأسد وأسد، وهو [وهم]" ولكنهم قالوا: إن فعلا جمع فعل قليل، وقد أورد منه الأخفش ألفاظا منها: رهن ورهن، ولحد القبر ولحد، وقلب النخلة وقلب، ورجل [ ص: 679 ] ثط وقوم ثط، وفرس ورد وخيل ورد، وسهم حشر وسهام حشر. وأنشد أبو عمرو حجة لقراءته قول قعنب:


                                                                                                                                                                                                                                      1135 - بانت سعاد وأمسى دونها عدن وغلقت عندها من قبلك الرهن

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عمرو: "وإنما قرأت فرهن للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع "رهن" في غيرها" ومعنى هذا الكلام أنما اخترت هذه القراءة على قراءة "رهان"، لأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك كما ذكر دون اتباع رواية.

                                                                                                                                                                                                                                      واختار الزجاج قراءته هذه قال: "وهذه القراءة وافقت المصحف، وما وافق المصحف وصح معناه، وقرأت به القراء فهو المختار". قلت: إن الرسم الكريم "فرهن" دون ألف بعد الهاء، مع أن الزجاج يقول: "إن فعلا جمع فعل قليل"، وحكي عن أبي عمرو أنه قال: "لا أعرف الرهان إلا في الخيل لا غير". وقال يونس: "الرهن والرهان عربيان، والرهن في الرهن أكثر، والرهان في الخيل أكثر" وأنشدوا أيضا على رهن ورهن قوله - البيت -:


                                                                                                                                                                                                                                      1136 - آليت لا نعطيه من أبنائنا     رهنا فيفسدهم كرهن أفسدا

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 680 ] وقيل: إن رهنا جمع رهان، ورهان جمع رهن، فهو جمع الجمع، كما قالوا في ثمار جمع ثمر، وثمر جمع ثمار، وإليه ذهب الفراء وشيخه، ولكن جمع الجمع غير مطرد عند سيبويه وجماهير أتباعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الباقين "رهان" فرهان جمع "رهن" وفعل وفعال مطرد كثير نحو: كعب وكعاب، وكلب وكلاب، ومن سكن ضمة الهاء في "رهن" فللتخفيف وهي لغة، يقولون: سقف في سقف جمع سقف.

                                                                                                                                                                                                                                      والرهن في الأصل مصدر رهنت، يقال: رهنت زيدا ثوبا أرهنه رهنا أي: دفعته إليه رهنا عنده، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1137 - يراهنني فيرهنني بنيه     وأرهنه بني بما أقول

                                                                                                                                                                                                                                      وأرهنت زيدا ثوبا أي: دفعته إليه ليرهنه، ففرقوا بين فعل وأفعل. وعند الفراء رهنته وأرهنته بمعنى، واحتج بقول همام السلولي:


                                                                                                                                                                                                                                      1138 - فلما خشيت أظافيرهم     نجوت وأرهنتهم مالكا

                                                                                                                                                                                                                                      وأنكر الأصمعي هذه الرواية وقال: "إنما الرواية: وأرهنهم مالكا"، والواو للحال كقولهم: "قمت وأصك عينه" وهو على إضمار مبتدأ.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 681 ] وقيل: أرهن في السلعة إذا غالى فيها حتى أخذها بكثير الثمن ومنه قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1139 - يطوي ابن سلمى بها من راكب بعدا     عيدية أرهنت فيها الدنانير

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: رهنت لساني بكذا، ولا يقال فيه "أرهنت" وأنشدوا

                                                                                                                                                                                                                                      ... ... ... ... ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أطلق الرهن على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول نحو قوله تعالى: "هذا خلق الله"، و "درهم ضرب الأمير"، فإذا قلت: "رهنت زيدا ثوبا رهنا" فرهنا هنا مصدر فقط، وإذا قلت "رهنت زيدا رهنا" فهو هنا مفعول به لأن المراد به المرهون، ويحتمل أن يكون هنا "رهنا" مصدرا مؤكدا أيضا، ولم يذكر المفعول الثاني اقتصارا كقوله: "ولسوف يعطيك ربك".

                                                                                                                                                                                                                                      و "رهن" مما استغني فيه بجمع كثرته عن جمع قلته، وذلك أن قياسه في القلة أفعل كفلس وأفلس، فاستغني برهن ورهان عن أرهن.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل الرهن: الثبوت والاستقرار، يقال: رهن الشيء، فهو راهن إذا دام واستقر، ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة. وأنشد ابن السكيت:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 682 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1140 - لا يستفيقون منها وهي راهنة     إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: "طعام راهن" أي: مقيم دائم، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1141 - الخبز واللحم لهم راهن      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      أي: دائم مستقر، ومنه سمي المرهون "رهنا" لدوامه واستقراره عند المرتهن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "ولم تجدوا كاتبا" في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أنها عطف على فعل الشرط أي: "وإن كنتم ولم تجدوا" فتكون في محل جزم لعطفها على ما هو مجزوم تقديرا. والثاني: أن تكون معطوفة على خبر كان، أي: وإن كنتم لم تجدوا [كاتبا] والثالث: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محل نصب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فإن أمن" قرأ أبي فيما نقله عنه الزمخشري "أومن" مبنيا للمفعول. قال الزمخشري: "أي أمنه الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء". قلت: وعلام تنتصب" بعضا؟ والظاهر نصبه بإسقاط الخافض على حذف مضاف أي: فإن أومن بعضكم على متاع بعض أو على دين بعض.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فليؤد الذي اؤتمن" إذا وقف على "الذي" وابتدئ بما بعدها قيل: "اوتمن" بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة، وذلك لأن أصله اأتمن، مثل [ ص: 683 ] اقتدر بهمزتين: الأولى للوصل والثانية فاء الكلمة، ووقعت الثانية ساكنة بعد أخرى مثلها مضمومة وجب قلب الثانية لمجانس حركة الأولى فقلت: اوتمن. فأما في الدرج فتذهب همزة الوصل فتعود الهمزة إلى حالها لزوال موجب قلبها واوا بل تقلب ياء صريحة في الوصل في رواية ورش والسوسي.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن عاصم: "الذي اوتمن" برفع الألف ويشير بالضمة إلى الهمزة، قال ابن مجاهد: "وهذه الترجمة غلط". وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم، وفي الإشارة والإشمام المذكورين نظر. وقرأ عاصم أيضا في شاذه: "الذتمن" بإدغام الياء المبدلة من الهمزة في تاء الافتعال، قال الزمخشري: "قياسا على "اتسر" في الافتعال من اليسر، وليس بصحيح لأن الياء منقلبة عن الهمزة فهي في حكم الهمزة، واتزر عامي، وكذلك "ريا" في "رؤيا" قال الشيخ: "وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح وأن "اتزر" عامي - يعني أنه من إحداث العامة لا أصل له في اللغة - قد ذكره غيره أن بعضهم أبدل وأدغم: "اتمن واتزر" وأن ذلك لغة رديئة، وكذلك "ريا" في رؤيا، فهذا التشبيه: إما أن يعود على قوله: "واتزر عامي" فيكون إدغام "ريا" عاميا، وإما أن يعود إلى قوله "فليس بصحيح" أي: وكذلك إدغام "ريا" ليس بصحيح، وقد حكى الكسائي الإدغام في "ريا".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 684 ] وقوله: "أمانته" يجوز أن تكون الأمانة بمعنى الشيء المؤتمن عليه فينتصب انتصاب المفعول به بقوله: "فليؤد"، ويجوز أن تكون مصدرا على أصلها، وتكون على حذف مضاف، أي: فليؤد دين أمانته. ولا جائز أن تكون منصوبة على مصدر ائتمن. والضمير في "أمانته" يحتمل أن يعود على صاحب الحق، وأن يعود على الذي ائتمن.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فإنه آثم قلبه" في هذا الضمير وجهان، أحدهما: أنه ضمير الشأن والجملة بعده، مفسر له. والثاني: أنه ضمير "من" في قوله: "ومن يكتمها" وهذا هو الظاهر. وأما "آثم قلبه" ففيه أوجه: أظهرها: أن الضمير في "إنه" ضمير "من" و "آثم" خبر إن، و "قلبه" فاعل بـ آثم، نحو قولك: زيد إنه قائم أبوه، وعمل اسم الفاعل هنا واضح لوجود شروط الإعمال. ولا يجيء هذا الوجه على القول بأن الضمير ضمير الشأن، لأن ضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة، واسم الفاعل مع فاعله عند البصريين مفرد، والكوفيون يجيزون ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن يكون "آثم" خبرا مقدما، و "قلبه" مبتدأ مؤخرا، والجملة خبر "إن" ذكر ذلك الزمخشري وأبو البقاء وغيره، وهذا لا يجوز على أصول الكوفيين; لأنه لا يعود عندهم الضمير المرفوع على متأخر لفظا، و "آثم" قد تحمل ضميرا لأنه وقع خبرا، وعلى هذا الوجه فيجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن وأن تكون ضمير "من".

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن يكون "آثم" خبر إن، وفيه ضمير يعود على ما تعود عليه الهاء في "إنه"، و "قلبه" بدل من ذلك الضمير المستتر بدل بعض من كل.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن يكون "آثم" مبتدأ، و "قلبه" فاعل سد مسد الخبر، والجملة [ ص: 685 ] خبر إن، قاله ابن عطية، وهو لا يجوز عند البصريين، لأنه لا يعمل عندهم اسم الفاعل إلا إذا اعتمد على نفي أو استفهام نحو: ما قائم أبواك، وهل قائم أخواك، وما قائم قومك، وهل ضارب إخوتك. وإنما يجوز هذا عند الفراء من الكوفيين والأخفش من البصريين، إذ يجيزان: قائم الزيدان وقائم الزيدون، فكذلك في الآية الكريمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة: "قلبه" بالنصب، نسبها إليه ابن عطية. وفي نصبه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه بدل من اسم "إن" بدل بعض من كل، ولا محذور في الفصل بالخبر - وهو آثم - بين البدل والمبدل منه، كما لا محذور في الفصل به بين النعت والمنعوت نحو: زيد منطلق العاقل، مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد، بخلاف البدل والمبدل منه فإن الصحيح أن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به، كقولك: "مررت برجل حسن وجهه" وفي هذا الوجه خلاف مشهور، وهو ثلاثة مذاهب: الأول مذهب الكوفيين وهو الجواز مطلقا، أعني نظما ونثرا. الثاني: المنع مطلقا، وهو مذهب المبرد. الثالث: منعه من النثر وجوازه في الشعر، وهو مذهب سيبويه، وأنشد الكسائي على ذلك:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 686 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1142 - أنعتها إني من نعاتها     مدارة الأخفاف مجمراتها
                                                                                                                                                                                                                                      غلب الرقاب وعفر نياتها     كوم الذرى وادقة سراتها

                                                                                                                                                                                                                                      ووجه ضعفه عند سيبويه في النثر تكرر الضمير.

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه منصوب على التمييز حكاه مكي وغيره، وضعفوه بأن التمييز لا يكون إلا نكرة، وهذا عند البصريين، وأما الكوفيون فلا يشترطون تنكيره، ومنه عندهم: "إلا من سفه نفسه"" بطرت معيشتها" وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      1143 - إلى ردح من الشيزى ملاء     لباب البر يلبك بالشهاد

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة - فيما نقل عنه الزمخشري - "أثم قلبه" جعل "أثم" فعلا ماضيا مشدد العين، وفاعله مستتر فيه، "قلبه" مفعول به أي: جعل قلبه آثما أي: أثم هو، لأنه عبر بالقلب عن ذاته كلها لأنه أشرف عضو فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عبد الرحمن: "ولا يكتموا" بياء الغيبة، لأن قبله غيبا وهم من ذكر في قوله: "كاتب ولا شهيد"، وهو وإن كان بلفظ الإفراد فالمراد به الجمع، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن فجمع في قوله: "ولا يكتموا".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 687 ] وقد اشتملت هذه الآيات على أنواع من البديع منها: التجنيس المغاير في "تداينتم بدين" ونظائره، والمماثل في قوله: "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها" والطباق في "تضل" و "تذكر" و "صغيرا وكبيرا"، وهي كثيرة، وتؤخذ مما تقدم فلا حاجة إلى التكثير بذكرها. وقرأ السلمي أيضا: "والله بما تعملون" بالغيبة جريا على قراءته بالغيبة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية