الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  المراحل التاريخية للاجتهاد الاجتهاد من الدين، وهو أصل من أصوله التي تثبت حيوية الإسلام وقدرته على إيجاد الحلول المناسبة لمشكلات الحياة المتجددة، فما هـي المراحل التاريخية لحركة الاجتهاد؟ وهل أغلق بابه - كما يقول بعضهم - في عصور معينة؟ ومن يتحمل مسئولية هـذا الأمر؟

                  بدأ الاجتهاد، منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كما ظهر ذلك في قصة [صلاة العصر في بني قريظة]، وفي ( حديث معاذ رضي الله عنه حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وسأله: ) [ ص: 152 ] ( بماذا تقضي إن عرض لك قضاء؟ فقال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيي ولا آلو ) ، فأقره وأثنى عليه. وهو حديث مشهور جود إسناده عدد من الأئمة مثل ابن تيمية ، وابن القيم ، والذهبي ، وابن كثير وغيرهم. وقد اجتهد عدد من الصحابة في عدد من القضايا في غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبلغه ذلك، فمنهم من أقره على اجتهاده، ومنهم من صحح خطأه.

                  بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد الصحابة رضي الله عنهم ، وواجهوا مشكلات الحياة المتجددة في مجتمعات الحضارات العريقة التي ورثوها بحلول إسلامية اقتبسوها من نصوص الإسلام أو من هـديه العام، ووجدوا فيه لكل عقدة حلا، ولكل داء دواء.

                  واجتهاد الصحابة في وقائع الحياة، وفقههم لدين الله في علاجها، يمثل بحق الفقه الأصيل للإسلام الذي يتسم بالواقعية، والتيسير، ومراعات الشريعة ومصالح العباد، دون تجاوز أو افتئات على النصوص.

                  والناظر في فقه الخلفاء الراشدين أو في فقه ابن مسعود وابن عباس وعائشة وغيرهم رضوان الله عليهم يجد ذلك واضحا للعيان، ويوقن أن الصحابة هـم أفقه الأجيال لروح الإسلام.

                  ومن الأمثلة على ذلك: موقف عمر ومن معه من فقهاء الصحابة. مثل: علي ومعاذ ، حين أبى قسمة أرض العراق على الفاتحين؛ باعتبارها غنيمة لهم أربعة أخماسها، كما هـو ظاهر قوله تعالى: ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) [الأنفال:41] ورأى أن توقف الأرض لمصلحة الأجيال الإسلامية، وقال لمن عارضه: أتريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شيء؟!

                  وقال له علي ومعاذ : انظر أمرا يسع أول الناس وآخرهم!

                  وقرر بذلك وجوب تكافل الأمة في جميع أجيالها، إلى جوار تكافلها في جميع أقطارها.

                  ومثل ذلك موقف عثمان رضي الله عنه من ضالة الإبل، فقد جاء في الحديث الأمر بتركها [ ص: 153 ] وقال لمن سأله عنها: ( ما لك وما لها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يأتي ربها ) ، وهكذا كانت تترك ضوال الإبل في عهد أبي بكر وعمر مرسلة تتناتج، لا يمسها أحد، حتى يجدها صاحبها، فلما كان عهد عثمان، وجد الناس قد تغيروا، وامتدت الأيدي إلى ضوال الإبل، فلم يعد بعضها يصل إلى أصحابها، فرأى المصلحة تعينت في التقاطها، فعين راعيا يجمعها ويعرفها، فإن لم يجد صاحبها باعها وحفظ الثمن له حتى يجيء.

                  وفي عهد علي رضي الله عنه رأي تضمين الصناع إذا ضاع ما في أيديهم من متاع الناس، مع أن يدهم في الأصل يد أمانة، " ولكن عليا قال: لا يصلح الناس إلا ذاك. "

                  وهكذا كان فقه الصحابة في سعةأفقه، وواقعيته، وتيسيره، مع التزامه بالأصول ولا ريب.

                  وقد سار في هـذا الاتجاه تلاميذ الصحابة من التابعين الذين كونوا مدارس فقهية في كل الأمصار تعلم، وتفتي في النوازل، وتواجه كل حادث بحديث، ومن هـذه المدارس أو الجامعات التي نشأت تحت سقوف الجوامع، برز مشاهير الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة مثل: الثوري ، والأوزاعي ، والطبري ، وداود الظاهري رحمهم الله.

                  وقد كان المجتهدون في القرون الأولى أكثر من أن يحصروا، وقد تنوعت مشاربهم ومداركهم في استنباط الأحكام، ولكنهم اتفقوا على أن المصدر الأساسي لأحكام الشريعة هـو الكتاب والسنة؛ فالكتاب هـو الأصل، والسنة هـي الشارحة المبينة؛ ويأتي بعد ذلك الإجماع والقياس عند جمهور الأئمة، وتأتي بعد ذلك المصادر التبعية الأخرى، مثل: الاستحسان ، والاستصلاح ، وسد الذرائع ، ورعاية العرف، وشرع من قبلنا، وغيرها مما اختلف فيه الفقهاء ما بين مثبت وناف، وموسع ومضيق.

                  المهم أن الفقه نما واستبحر، وكثرت مسائله الواقعة، والمتوقعة أو المفترضة، ودونت كتبه، وقعدت قواعده، وضبطت طرائق استنباطه بواسطة علم الأصول الذي [ ص: 154 ] ابتكره المسلمون، ولا يوجد عند أمة مثله، ويعد من مفاخر التراث الإسلامي.

                  وقد ظل الفقه الإسلامي أساس القضاء والفتوى في المجتمعات الإسلامية كلها حتى دخل الاستعمار بلاد المسلمين، وعزل الشريعة عن التقنين والقضاء إلا في دائرة ضيقة هـي ما سموه: " الأحوال الشخصية " .

                  وليس صحيحا ما يقال: إن الإسلام قد عطل بعد عصر الخلفاء الراشدين، فإن الذي لا شك فيه أن المسلمين طوال اثني عشر قرنا، لم يكن لهم دستور ولا قانون يتحاكمون إليه غير الشريعة الإسلامية، برغم ما حدث من سوء الفهم أو سوء التطبيق لأحكامها السمحة.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية