الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  الدعاة والتجديد يتهم بعض الدعاة إلى الإسلام أحيانا بأنهم أنصار للجمود والتشدد، ومعاداة أي تجديد، فهل يرتبط هـذا بحقيقة واقعة، أم أنه يرتبط برغبة أخرى خفية؟

                  وهل لنا أن نتعرف على الموقف الصحيح من قضية التجديد؟

                  ينقسم الناس بشأن التجديد إلى أصناف ثلاثة: [ ص: 164 ] (1) أعداء التجديد الذين يريدون أن يبقى كل قديم على قدمه حكمتهم المأثورة: ما ترك الأول للآخر شيئا، وشعارهم المرفوع: ليس في الإمكان أبدع مما كان!

                  وهم بجمودهم يقفون في وجه أي تجديد: في العلم، في الفكر، في الأدب، في الحياة، فما بالك بالدين؟! إن مجرد كلمة (التجديد) بالنسبة للدين يعتبرونها هـرطقة.

                  وفي مجال الدين وجدت فئتان ينتهي موقفهما إلى " تجميد الإسلام " وهما: فئة مقلدي المذاهب، المتعصبين لها، الذين يرفضون أي خروج عليها، ولا يعترفون بحق الاجتهاد لفرد ولا لجماعة في هـذا العصر.

                  والفئة الأخرى هـي التي سميتها " الظاهرية الجدد " وأعني بهم الحرفيين الذين يقفون جامدين عند ظواهر النصوص، ولا يمعنون النظر إلى مقاصدها، ولا يفهمون الجزئيات في ضوء الكليات، ولا غرو أن تراهم يقيمون معارك حامية من أجل أمور هـامشية في الدين، وهؤلاء وأولئك قوم مخلصون للإسلام، ولكنهم معه كالأم التي تسببت في موت وليدها، بحبسه والإغلاق عليه خوفا عليه من الشمس والهواء.

                  (2) ويقابل هـؤلاء: الغلاة في التجديد، الذين يريدون أن ينسفوا كل قديم، وإن كان هـو أساس هـوية المجتمع، ومبرر وجوده، وسر بقائه، كأنما يريدون أن يحذفوا " أمس " من اللغة، ويحذفوا " علم التاريخ " من علوم الإنسان!

                  وتجديد هـؤلاء هـو التغريب بعينه، إن قديم الغرب غدا عندهم جديدا، فهم يدعون إلى اقتباسه بخيره وشره وحلوه ومره، وهؤلاء هـم الذين سخر منهم الرافعي رحمه الله حين دخل معركته معهم (تحت راية القرآن) وقال: إنهم يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر.

                  ورد عليهم شاعر الإسلام محمد إقبال بأن " الكعبة لا تجدد بجلب حجارة لها من أوروبا " وأشار إليهم أحمد شوقي - أمير الشعراء- في قصيدته عن الأزهر:


                  ولو استطاعوا في المجامع أنكروا من مات من آبائهم أو عمرا!     من كل ساع في القديم وهدمه
                  وإذا تقدم للبناية قصرا!

                  [ ص: 165 ] وهذا الصنف والذي قبله هـما اللذان شكا منهما الأمير شكيب أرسلان حين قال: إنما ضاع الدين بين جامد وجاحد، ذلك ينفر الناس منه بجموده، وهذا يضلهم عنه بجحوده.

                  (3) وبين هـذين الصنفين يبرز صنف وسط، يرفض جمود الأولين، وجحود الآخرين، يلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت، ويقبل التجديد، بل يدعو اليه، وينادي به، على أن يكون تجديدا في ظل الأصالة الإسلامية، يفرق بين ما يجوز اقتباسه، وما لا يجوز، ويميز بين ما يلائم وما لا يلائم.

                  إنه يدعو إلى أخذ العلم المادي والتقني بكل ما يستطيعه مما تحتاج الأمة اليه، بشرط أن نهضم التكنولوجيا وننشئها لا أن نشتريها ونظل غرباء عنها.

                  وهذا هـو موقف دعاة الإسلام الحقيقيين: إن شعارهم: الجمع بين القديم النافع والجديد الصالح، والانفتاح على العالم دون الذوبان فيه، والثبات على الأهداف والمرونة في الوسائل، والتشديد في الأصول والتيسير في الفروع.

                  بين الاجتهاد والتجديد - كمفهوم معاصر - صلة، فإذا كان الإسلام يعتبر الاجتهاد أداة لفهم أحكام القرآن والسنة، فهل يقبل الإسلام التجديد كما يقبل الاجتهاد؟

                  أم أنه ينافي طبيعة الدين الذي جاء ليضبط الحياة بعقائده وقيمه ومفاهيمه وأحكامه؟ أم أن لكل منهما مجاله الذي يعمل فيه؟

                  أدهشني إنكار عالم فاضل نسبة التجديد إلى الدين - في حوار مع أحد الصحفيين - باعتبار أن الدين ثابت لا يتجدد ولا يتطور، ودافعه إلى هـذا - فيما أعتقد - خشيته أن يفهم الناس من إطلاق كلمة " تجديد الدين " إعمال يد التغيير فيه بالحذف أو الزيادة، فأراد أن يسد الباب كلية بإنكار مطلق التجديد.

                  والحقيقة أن الحديث الشريف قد فصل في هـذه القضية، وذلك فيما رواه أبو داود [ ص: 166 ] والحاكم والبيهقي وغيرهم، بإسناد صحيح " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها " . وليس بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قول، ولا بعد حكمه حكم. وكثير من العلماء المخلصين ينكرون أشياء ثابتة لسوء استخدام بعض الناس لها، وهم بهذا يعالجون الخطأ بخطأ، والمنهج السليم هو إثبات الثابت، وإعطاؤه التفسير الصحيح، ورد كل فهم أو تفسير خطأ. فتجديد الدين ثابت بالنص، ولكنه ليس هو الاجتهاد بعينه، وإن كان الاجتهاد فرعا منه، ولونا من ألوانه، فالاجتهاد تجديد في الجانب الفكري والعلمي، أما التجديد فيشمل الجانب الفكري، والجانب الروحي، والجانب العملي، وهي الجوانب التي يشملها الإسلام، وهي: العلم والإيمان والعمل. وأمتنا أحوج ما تكون اليوم إلى من يجدد إيمانها، ويجدد فضائلها، ويجدد معالم شخصيتها، ويعمل على إنشاء جيل مسلم يقوم في عالم اليوم بما قام به جيل الصحابة من قبل، وهو الذي سميناه (جيل النصر المنشود) . وقد بدأ هذا الاجتهاد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، من أمثال: سعيد النورسي، وحسن البنا، وأبي الأعلى المودودي رحمهم الله، وعلى من بعدهم أن يكملوا المسيرة ويصححوها حتى يتم الله نوره.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية