الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  تقنين الفقه من المفروض أن هـناك فرقا بين الفقه كأحكام اجتهادية متفرقة، وبين التقنين والقانون كضوابط ومقاييس تمكن القاضي من العدالة أكثر، وتضبط الأقضية، وتحقق الانسجام، خاصة إذا كان القاضي بعيدا عن القدرة على الاجتهاد ومعرفة المصادر والمراجع كلها، أو غير قادر على الإحاطة بالآراء الفقهية، ولا يمتلك القدرة على الترجيح والانتقاء بما يناسب الواقع.

                  فهل ترون ضرورة تقنين الفقه لضبط القضاء؟ [ ص: 176 ] وما موقع ذلك من الاجتهاد ؟

                  عرضت لهذا الموضوع في بحثي (الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد) وبينت أهمية التقنين لعالمنا اليوم، وأشرت إلى مخاوف بعض العلماء من التقنين، وكيف يمكن أن نتفاداها، إذا أحسنا وضع الأسس والضوابط التي يقوم عليها التقنين المعاصر.

                  ولكني قرأت في هـذه القضية من قريب كلمات مضيئة لعالم كبير، ومحدث جليل، هـو العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله في محاضرة له بعنوان: (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر ) ألقاها منذ نحو نصف قرن من الزمان.

                  ويسرني أن أسجل هـنا ما ذكر في هـذا الصدد لقوة حجته، وفصاحة عبارته. قال رحمه الله في بيان الخطة العملية لاقتباس القوانين من الشريعة:

                  [لا تظنوا أني حين أدعوكم إلى التشريع الإسلامي أدعوكم إلى التقيد بما نص عليه ابن عابدين أو ابن نجيم مثلا، ولا إلى تقليد الفقهاء في فروعهم التي استنبطوها غير منصوصة في الكتاب والسنة، وكثير منها فيه حرج شديد. كلا؛ فأنا أرفض التقليد كله ولا أدعو إليه، سواء أكان تقليدا للمتقدمين أم للمتأخرين. ثم الاجتهاد الفردي غير منتج في وضع القوانين. بل يكاد يكون محالا أن يقوم به فرد أو أفراد. والعمل الصحيح المنتج هـو الاجتهاد الاجتماعي، فإذا تبودلت الأفكار، وتداولت الآراء، ظهر وجه الصواب، إن شاء الله.

                  فالخطة العملية، فيما أرى: أن تختار لجنة قوية من أساطين رجال القانون وعلماء الشريعة، لتضع قواعد التشريع الجديد، غير مقيدة برأي، أو مقلدة لمذهب، إلا نصوص الكتاب والسنة. وأمامها أقوال الأئمة وقواعد الأصول وآراء الفقهاء، وتحت أنظارها آراء رجال القانون كلهم. ثم تستنبط من الفروع ما تراه صوابا، مناسبا لحال الناس وظروفهم، مما يدخل تحت قواعد الكتاب والسنة، ولا يصادم نصا، ولا يخالف شيئا معلوما من الدين بالضرورة.

                  فهذه اللجنة يجب أن تكون موفورة العدد، يكون منها لجنة عليا، تضع الأسس وترسم المناهج، وتقسم العمل بين لجان فرعية، ثم تعيد النظر فيما صنعوا ووضعوا، [ ص: 177 ] لتنسيقه وتهذيبه، ثم صوغه في الصيغة القانونية الدقيقة. فيعرض كاملا على الأمة، ليكون موضع البحث والنقد العلمي، حتى إذا ما استقر الرأي عليه، عرض على السلطات التشريعية، لإقراره واستصدار القانون للعمل به.

                  وأول ما يجب على اللجنة العليا عمله، أن تدرس - بنفسها أو باللجان الفرعية - مسائل علم أصول الفقه، ومسائل علم أصول الحديث (مصطلح الحديث) لتحقيق كل مسألة منها، وتوحيد منهج الاستنباط من الأدلة. فتحقق المسائل التي يرجع فيها لدلالة الألفاظ على المعاني في لغة العرب، من نحو الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والصريح والمئول، والمفسر والمجمل، وسائر قواعد الأصول، كأبواب القياس والاستحسان والمصالح المرسلة ، وما إلى ذلك.

                  وتحقق القواعد في نقد رواية الحديث ورواته، من ناحية المتن وناحية الإسناد، وما يكون به الحديث صحيحا يصلح للاحتجاج ويجب الأخذ به، وما يكون به ضعيفا لا يصلح للاحتجاج.

                  وتحقق القاعدة الجليلة الدقيقة، التي لم يحققها أحد من العلماء المتقدمين، فيما نعلم، إلا أن القرافي أشار إليها إشارة موجزة في الفرق السادس والثلاثين من (كتاب الفروق) (ج:1-ص:249-252 طبعة تونس ) وهي الفرق بين تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتوى والتبليغ، وبين تصرفه بالإمامة، وبين تصرفه بالقضاء. وهو بحث أساسي لدرس الأحاديث والاستدلال بها درسا صحيحا، فيفرق به بين الأحاديث التي لها صفة العموم والتشريع، وبين الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصرفا منه بالإمامة، فليست لها صفة العموم والتشريع، بل المرجع في أمثالها إلى ما يأمر به الإمام من المصالح العامة، وبين الأحاديث في أقضية جزئية، تصرفا منه صلى الله عليه وسلم بالقضاء، فيكون الحديث عن قضية بعينها، يستنبط منه ما يسمى في عصرنا (المبدأ القضائي) .

                  ولقد حققت مثالا من مثل هـذه القاعدة العظيمة في شرحي على (كتاب الرسالة) للإمام الشافعي ص: 240-242.

                  وأجل عمل وأعظمه أثرا أن تحقق اللجنة باب (تعارض الأدلة والترجيح بينها) [ ص: 178 ] فذلك هـو علم الأصول على الحقيقة، وذلك هـو ميدان الاجتهاد ، وذلك هـو أساس الفقه والاستنباط.

                  فإذا تم هـذا، ووحدت القاعدة التي يبنى عليها الاستدلال والاستنباط، نظر في القواعد العامة التي يرجع إليها الفقهاء في فقههم، على اختلاف مذاهبهم، وطبقت عليها قواعد الأصول التي أقرتها اللجنة العليا أو اللجنة العامة، " أصول الفقه وأصول الحديث " ثم وزنت بميزان الكتاب والسنة الصحيحة، وأخذ منها ما قام الدليل على صحته وموافقته للتشريع الصحيح.

                  ثم تدرس اللجنة القواعد العامة للقوانين الوضعية، على اختلاف مبادئها وأنواعها، وتزنها بميزان القواعد التشريعية الإسلامية، فتختار منها ما تقضي المصلحة العامة باختياره، مما لا يعارض نصا منن نصوص الكتاب والسنة، ولا يناقض شيئا معلوما من الدين بالضرورة، ولا قاعدة أساسية من قواعد التشريع الإسلامي.

                  وبعد هـذا كله، بعد أن تستقر القواعد التي تستنبط الفروع والمسائل على أساسها، وتوضع الموازين الصحيحة البينة، حتى لا تتشعب الطرق بالمجتهد، تقسم أبواب الفقه بين اللجان الفرعية، لتطبق فروع المسائل وجزئياتها على القواعد التي أقرت، وتضع لها الأحكام الصحيحة التي تقتضيها الأدلة الصحيحة نصا أو استنباطا.

                  وهذا عمل كبير ضخم، لا يضطلع به إلا العلماء الأفذاذ المخلصون، من علماء الشرع وعلماء القانون، فيجب أن يسمو اختيارهم على الرغبات الشخصية والأهواء الحزبية، وما إلى ذلك مما قد يفسد الاختيار أو يضعفه.

                  وسيدعوهم هـذا العمل إلى أن يفرغوا له وحده، فلا يجوز أن يعهد إلى أي واحد منهم بعمل غيره، حتى يكون وقتهم كله وقفا عليه، ليسير على وتيرة واحدة، سيرا حثيثا موصلا إلى الغرض المقصود منه في أقرب وقت وأوجزه. وسيدعو إلى اختيار عشرات كثيرة من الأعضاء والمساعدين، ولعله مع كل هـذا لا يتم في أقل من عشرين سنة.] [ ص: 179 ] وقد قامت جهود متعددة في أكثر من بلد إسلامي وعربي لاقتباس القوانين من الشريعة، ووضعت بعض أحكام الفقه في صورة مواد قانونية.

                  ولكن هـل روعي فيها ما ذكره الشيخ من أعمال تتعلق بأصول الفقه وأصول الحديث، وتحقيق رواية الحديث، وبيان التشريعي العام من السنة من غيره، وتمحيص قواعد التعارض والترجيح، إلى آخر ما ذكره الشيخ الجليل، مما قدر له عشرين سنة أو تزيد؟

                  أعتقد أن قليلا ممن يعملون في ميدان التقنين هـم الذين يلتفتون إلى مثل هـذه الأمور. ولعل المجامع الفقهية المعاصرة تجمع أمرها على القيام بهذا الواجب، الذي لا يحتمل التأخير.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية