الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  نصف قرن من البحث عن الحقيقة

                  في حوار مع: البرفيسور رجا جارودي

                  مدخل: من هـو البروفيسور رجاء الجارودي ؟

                  · أديب، وفيلسوف، ومفكر فرنسي بارز.

                  · ولد عام 1913م. في مارسيليا من أسرة عمالية.

                  · حصل على منحة الدولة لدراسة الفلسفة.

                  · انضم في العشرين من عمره إلى الحزب الشيوعي.

                  · تنقل بين السجون والمعتقلات.

                  · انتخب نائبا عن منطقة تارن عام 1945م، وعضوا في مجلس الشيوخ، ورئيسا للمجلس الوطني الفرنسي من عام 1956م إلى 1958م.

                  · كان مديرا لمركز البحوث والدراسات الماركسية عام 1960م.

                  · أبعد عن الحزب الشيوعي عام 1960م.

                  · في رحلة القلق الحضاري والتفتيش عن معنى للحياة:

                  آمن بالمسيحية بصورتها البروتستانتية في سنة 1927 - على الرغم من أن أبويه كانا بعيدين عن التدين - ومع نذر انفجار الأزمة العالمية الكبرى عام 1930 فكر في أسلوب مواجهة الأزمة فاتجه إلى اعتناق الماركسية فكرا وممارسة عام 1933، لكنه جمع - في الوقت نفسه - بين عضوية الحزب الشيوعي ورئاسة منظمة الشباب المسيحيين البروتستانت.

                  رسالته في الدكتوراه (النظرة المادية في المعرفة ) جاءت صدى لتوجهه، حيث ضمنها [ ص: 49 ] الموضوعات التي عالجها أساتذة الفلسفة المادية: ماركس، وأنجلز ، ولينين ، وماوتسي تونج وغيرهم.

                  * جاءت مراجعته الشاملة للماركسية نتيجة الصدمة الشديدة بما عرفه عن " ستالين " بناء على ما جاء في البيان السري الذي ألقاه خروتشوف عام 1956م في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، وكان ذلك مأساة انعطافية كاملة، ترتبت عليها النتائج اللاحقة كلها، وكان من أبرز نتائجها امتناعه عن نشر رسالته للدكتوراه، ومن نتائجها أيضا إصدار كتابه الهام " نظرات حول الإنسان " عام 1959 حيث بدأت عملية النقد الداخلي.

                  وفي عام 1960 أسس (مركز الدراسات والبحوث الماركسية ) الذي أداره لمدة 10 سنوات، وكان المسئول عن الترجمة الفرنسية لمؤلفات لينين جميعها.

                  يقول: بأن البيان (بيان خروتشوف عام 1956 ) هـو الذي أيقظه من سباته العقائدي فأجرى دون كلل نقدا ذاتيا لعقيدته الوثوقية.. وبدأ يتكرس الشرخ بين جارودي والأنموذج السوفييتي للماركسية منذ اطلاعه على جرائم ستالين.

                  · وفي تلك الفترة أيضا أصدر كتابه (واقعية بلا ضفاف ) الذي انتقد فيه بشدة الواقعية الاشتراكية التي تجمدت في قوالب حالت بينها وبين التطور الحضاري.

                  · وفي عام 1966 أصدر كتابه (ماركسية القرن العشرين ) حيث نقد فيه نقدا مميزا المسلمات الماركسية. وفي هـذا الكتاب اتهم جارودي الماركسية بالتحول إلى دين رسمي ذي طقوس وأتباع، وكانت قولته الشهيرة - ردا على الفهم الجزافي لمقولة: الدين أفيون الشعوب -: (إن القول بأن الدين في كل زمان ومكان يصرف الإنسان عن العمل والكفاح متناقض تناقضا صارخا مع الواقع التاريخي ) .

                  · وفي عام 1968 نشر كتابه (في سبيل نموذج وطني للاشتراكية ) بعد أحداث تشيكوسلوفاكيا واحتلالها من قبل قوات حلف وارسو.

                  · وفي عام 1969 أصدر كتابه (منعطف الاشتراكية الكبير ) الذي طالب فيه بتصحيح وتعديل الماركسية تحت عنوان: (إن مراجعة مؤلمة هـي اليوم ضرورية ) .

                  وقد أفسح في هـذا الكتاب مجالا أوسع للمثقفين، إذ رأى أن أهميتهم العددية [ ص: 50 ] والاستراتيجية تتزايد باطراد، بينما تتناقص أهمية الطبقات الوسطى.

                  · بعد أن اجتاز منعطف الأحلام باحثا عن اليقين والإيمان بعينين مفتوحتين، انتقد جذور الدغماتية الستالينية، والمادية الاقتصادية المبتذلة، والجبرية الميكانيكية، والمواقف العدمية من الفرد وطاقته الذاتية، والتصلب الفلسفي، والحزبية العقلية، والتقنين المدرسي لمبادئ الديالكتيك، والعزلة الذاتية عن بقية الأفكار.

                  · وفي عام 1970م ازدادت حدة التوتر بينه وبين حزبه، وكانت هـناك مناقشات ومجادلات انتهت إلى فصله، ويلخص هـذه الأحداث بقوله:

                  كنت في هـذه الفترة أعمل أستاذا بالجامعة، ولكني تعلمت من طلبتنا وعمالنا درسا كبيرا، مفاده أن بعض الأنظمة قد يشكل خطورة كبيرة بنجاحه، أبعد من الخطورة التي تنتج عن فشله. ويتمثل هـذا النظام في النمط الغربي في التقدم والنماء سواء عبرت عنه برأسمالية تعزز الحروب والاستعمار والأزمات الداخلية المميتة، أو اشتراكية سوفييتية تضطهد شعبها، وتستغل العالم الثالث، وتتسابق إلى التسلح الرهيب، والسيطرة، ذلك أن الاتحاد السوفييتي يتبع النمط ذاته.

                  وبعد عامين من الخروج على الحزب الشيوعي أصدر كتابه (البديل ) الذي هـو أقرب للنداء، وإيجاد الحافز لصناعة المستقبل، أكثر منه برنامجا يرمي إلى إنشاء حزب، حتى يمكن وصفه بأنه مشروع حضاري.

                  * وفي عام 1974 أصدر مجلة سياسية أسماها (البدائل الاشتراكية ) حيث أعلن أنه يجب إعادة الغرب إلى وضعه الحقيقي من خلال حوار حقيقي بين الحضارات.

                  * وفي عام 1976 قام بتأسيس (المعهد الدولي للحضارات ) وكان يعتبر أن الحضارة الغربية استنفدت أغراضها، ولم تعد لها ضرورة، وكان من أهم ما كتبه في هـذه المرحلة (حوار الحضارات ) حيث يمكن تلخيص وجهته في ذلك بقوله:

                  (إن حوار الحضارات - حقيقة - ليس بجائز إلا إذا اعتبرت الإنسان الآخر والثقافة الأخرى جزءا من ذاتي يعمر كياني، ويكشف لي عما يعوزني ) . [ ص: 51 ]

                  * وفي عام 1981 أصدر كتابه (وعود الإسلام ) الذي يجعل الإسلام الخيار الوحيد أمام البشرية للخروج من المأزق.

                  * أعلن إسلامه في 11 رمضان سنة 1402 هـ في مدينة جنيف [1]

                  * يتحدث عن مساهمة النصرانية في الاستعمار فيقول في كتابه " المرض الأبيض " :

                  لقد ساهم الدين في الاستعمار، فكانت الصيغة الدائمة أن يذهب المبشر أولا، ثم يلحقه الجند، كي يصل بعد ذلك التاجر.

                  ويمثل لهذه الروح الاستعمارية بقوله: إن أجرة العامل الأسود لستة أيام ينالها العامل الأبيض في ساعة واحدة.

                  ويقول: بعد خمسة قرون من سياسة الغرب تتلخص حضارته فيما يلي:

                  لقد صرف على التسلح عام 1982 مبلغ 650 مليار دولار، لو وزع على أفراد البشرية لأصاب الفرد 4 أطنان من المتفجرات، في السنة نفسها توفي في العالم الثالث خمسون مليونا بسبب الجوع وسوء التغذية.

                  · يعتقد أن إسرائيل تلعب دور مندوب الاستعمار الغربي، وهو ما يفسر الدعم المالي والمساعدات غير المشروطة من الأسلحة التي تتلقاها من الولايات المتحدة الأمريكية ومن شبكته الصهيونية العالمية.

                  · اتهم بعدائه للسامية بعد أن نشر بحثه " ملف إسرائيل " ورفعت منظمة (ليكر) اليهودية الفرنسية ضده قضية بتهمة العنصرية ومعاداة السامية، فدافع عن نفسه بأنه قضى ثلاث سنوات في السجون النازية، وحمل رسالة من غولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي إلى الرئيس جمال عبد الناصر .

                  ويمكن أن نقول: بأن حركته الذاتية لم تكن قفزا بهلوانيا من موقع لآخر، بقدر ما هـي مراجعة ذاتية لجزء هـام من الفكر الغربي.

                  · ومما يلفت النظر أنه يعتبر من أبرز الداعين إلى وحدة الأديان، ورفع شعار العودة إلى الإبراهيمية، وإحياء روح جامعة قرطبة . وقد أقام مؤتمرا لذلك دعا إليه مجموعة [ ص: 52 ] من المفكرين والباحثين من يهود ونصارى ومسلمين (؟!!)

                  · يرى أنه من الممكن - استنادا إلى الوحي القرآني - أن نجد في الطريق الصحيح حلولا للمشاكل التي تفرضها الحياة اليوم، دون أن نمزج ذلك بتقليد النماذج الأمريكية والسوفييتية. ودون أن نخلط بين الاتجاه نحو العصرية والاتجاه نحو الغرب.

                  · ويرى أن ادعاء الاختصاص لمجرد الاختصاص، والعلم للعلم، والفن للفن هـو نسيان مميت للهدف، وإحلال للوسائل محل الغايات.

                  · وتجربة جارودي ليست نادرة؛ فكثيرون هـم الذين تحولوا إلى نقيض فكرهم، لكنها تبقى تجربة متميزة حدثت من مفكر كبير، ارتبط بالشيوعية، وله في ذلك كتب ودراسات ؛ لكنه وصل في النهاية إلى الطريق المسدود فبدأ بالبحث عن البديل.

                  · ويمكن اعتبار تلك التجربة طريقا للخروج من حضارة الأزمة للكثيرين الذين لا يزالون في غرف الانتظار [2]

                  وبعد فقد قدمت للحوار الذي أجريته معه في جمادى الأولى 1403هـ كلمة بعنوان (جارودي شاهد سقوط الحضارة الغربية ) قد يكون من المفيد إثباتها: الحضارة الأوروبية المادية، تشرف على السقوط وتنتهي إلى الانتحار الجماعي، إنها امتلكت الوسيلة وافتقدت الهدف والغاية، وحصلت على شيء من العلم، لكن غابت عنها الحكمة.

                  وقد نكون نحن المسلمين - من خلال موقعنا المتخلف حضاريا، واضطراب مقاييسنا، بسبب ضعف التزامنا بهذا الدين - عاجزين عن التعرف بشكل دقيق على أزمة الحضارة الأوروبية، لأن بعضنا يعاني مأساة الانضباع الحضاري، وتتحكم بنظرتنا مجموعة عوامل أخرى، ليس أقلها عقدة القهر والاستعمار، والحقد الصليبي على الإسلام والمسلمين، التي لا نزال نعيش آثارها، وقد تتحكم بموقفنا الروح الدفاعية، والوسائل العاطفية، في بعض الأحيان. [ ص: 53 ] من هـنا تأتي أهمية الشهادة الحضارية التي يدلي بها المفكر الفرنسي الكبير " رجاء جارودي " ابن هـذه الحضارة الذي عاش أزمتها، وخبرها من الداخل، وتنقل بين صورها الفكرية المتعددة، من بروتستانتية وكاثوليكية إلى شيوعية أرثوذكسية، وتبين له أنها وجوه متعددة لحقيقة واحدة؛ فانتهى إلى الإسلام.

                  لقد قطع جارودي رحلة فكرية شاقة تزيد على النصف قرن قبل إسلامه من البحث والتفتيش عن الإنسان في الحضارة الأوروبية المادية، واستجلاء الهدف الذي يستأثر بنشاطه، وينتظم فاعلياته، فرجع بالخيبة المريرة، ورأى بارقة الأمل تلوح بالشيوعية كحل للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية، باعتبارها طرحت كنقيض للصورة الرأسمالية ، لكنه تبين بعد أن وصل إلى عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي أن الشيوعية جاءت لتعالج الانحراف الرأسمالي المادي فعالجت الانحراف بانحراف أشد، لكن في الاتجاه المعاكس، ولم تخرج في حقيقتها عن أن تكون الوجه الآخر للحضارة الأوربية النصرانية، فعاد مرة أخرى إلى النصرانية، وطرحت عنده من جديد قضية الأديان.

                  عاش ويلات الحرب، وظروف الاعتقال، وحكم عليه بالإعدام، ورب ضارة نافعة كما يقال.

                  أول مرة يلتقي بالإسلام، عندما امتنع الجنود العرب المسلمون الجزائريون عن تنفيذ إطلاق النار عليه (لأن شرف وأخلاق المحارب المسلم يقتضيه ألا يطلق النار على إنسان أعزل ) .

                  يدعو الغرب ليراجع موقفه المتصلب من الإسلام، ويرى ضرورة قيام حوار حضاري، على ألا تدور المناقشة والحوار بين رأسمالية تولد الاستعمار والحروب والأزمات الداخلية، واشتراكية من النمط السوفييتي تستغل العالم الثالث.

                  يأخذ على الكنيسة موقفها الرسمي من القضية الفلسطينية، وتبنيها للدعاية الصهيونية والرؤية التلمودية، على أساس خرافة أرض الميعاد التي يعلمونها للأطفال في مدارس الأحد. [ ص: 54 ] إنه شاهد وليس كأي شاهد على السقوط الحضاري الأوروبي، وما ينتظر إنسان هـذه الحضارة العدمية المجنونة الجانحة.

                  ونحن إذ نقدم الحوار معه لنرجو أن نستطيع بذلك المساهمة في تحديد النوافذ المضيئة، والمداخل الحقيقية لأزمة الحضارة، يطل من خلالها جيل الانبهار بالحضارة الأوروبية، والافتتان بوسائلها وإنجازاتها المادية، وذهولها عن الغايات والأهداف.

                  بقي أن نقول: إلى أي مدى نستطيع نحن المسلمين أن نستفيد من موقع المفكر الفرنسي المسلم " رجاء جارودي " والثغر الذي هـو عليه، ونستطيع مساعدته للمحافظة على الموقع نفسه لأهميته، ولا نندفع وراء عواطفنا لنحمله إلى مواقع أخرى في العمل الإسلامي ليست من طبيعته ولا من اختصاصه واهتمامه؛ على طريقنا في الرفع والخفض.

                  فقد تكون المشكلة كلها فينا نحن الذين يقودنا الاندفاع وراء عواطفنا إلى بعض التصرفات المخطئة. ولا نزال نقول: إن الثغر الذي يقف عليه جارودي عظيم وخطير، فلو أعناه عليه، وهيأنا له الوسائل المطلوبة للمرابطة في هـذا الثغر لكان أولى من أن نحمله إلى مواقع قد لا تكون من طبيعة اختصاصه، فماذا يستطيع أن يقدم في مؤتمرات للفقه الإسلامي والحديث والطب، عدا أن يكون ذلك على حساب موقعه الأصلي؟! فهل نعود إلى القول: بأن المشكلة فينا؟! ونرجو الله لنا وله حسن الإسلام.

                  ومن الحقائق التي نرى أنه لا بد من إثباتها هـنا أن الإسلام بما يمتلك من حقائق خالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان، لا يزال قادرا على مخاطبته أرقى العقول البشرية، وأن قدرته على الانتشار دائمة سواء في ذلك المجتمعات المتقدمة أم المجتمعات المتخلفة على الرغم من الحالة المتخلفة التي يعيشها المسلمون. وما إسلام جارودي وغيره إلا مؤشرات ومبشرات في الوقت نفسه، ونحن بالطبع لا نتطلب أن يأتي جارودي إلى الإسلام عالما به منظرا لجماعته حيث لا يجوز أن يغرب عن بالنا أنه سوف يكون لتاريخه الطويل وخلفيته الفكرية بعيدة الغور التي تشكلت من خلال رؤى فلسفية وتجارب عملية ومعاناة اجتماعية وتأملات أخلاقية حضورا دائما في حياته. [ ص: 55 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية