الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  الثقافة.. والعلم والحكمة في الحقيقة يمكن الانتقال إلى نقطة ثانية، وهي أن الإنسان الأوروبي في فترة من الفترات كان يعتقد أن حضارته وتصوراته وثقافته هـي المقياس الذي يجب أن تقاس به سائر الحضارات، فكل ما وافق الفكر الأوروبي اعتبره حضارة، وكل ما خالف الفكر الأوروبي لم يعتبر حضارة، وهكذا مرت أوروبا بفترة الإنسان المتفوق، وأصيب الأوروبي بعقدة التفوق، واعتبر أن المسلمين ليسوا سوى نقلة أو وعاء فقط للحضارة اليونانية القديمة والرومانية القديمة؛ الأمر الذي يعبر عن عجزهم عن قراءة التاريخ الحضاري قراءة أمينة وصحيحة، فالحضارة - تاريخيا - لم تكن حكرا على عرق بشري معين، ولو كانت كذلك لاستوطنت تاريخيا في مكان واحد، أما وقد تنقلت من شعب إلى شعب، ومن أمة إلى أمة، فإن قضية المراهنة [ ص: 63 ] الحضارية على الإنسان الأوروبي فيما نعتقده خاسرة؛ فما هـو موقفكم من هـذه القضية؟

                  لقد ورثت الثقافة الأوروبية - التي تعتمد عليها حضارة الغرب - مضمونها من أصل مزدوج من التراث اليوناني الروماني، واليهودي النصراني، وأغفلت عمدا التراث الثالث، أي التراث العربي الإسلامي. وقد وقع الحط من قيمة التراث العربي الإسلامي لسببين؛ أولهما: أنه اعتبر - عمدا - عاملا بسيطا ناقلا لثقافات وأديان قديمة، أو مجرد مترجم ومعلق على الفكر اليوناني، وثانيا: اعتبر - عمدا - مجرد فترة تاريخية سابقة لثقافتنا، وبالتالي يمكن أن تنحصر دراسته في نطاق المهتمين بالتاريخ القديم، وبهذا المنظار قالوا بأن الإسلام لا يمكن أن يأتي بجديد، ولا يحتوي على أي مضمون حيوي.

                  والرأي عندي أن هـذا الاتجاه المزدوج ينبغي لنا أن نحاربه لأنه اتجاه خطير، وتأتي خطورته من أنه يمنعنا من فهم الحاضر وبناء المستقبل.

                  وقبل كل شيء، فإن القول بأن الفكر الإسلامي مجرد مترجم وناقل للفكر اليوناني أمر لا أساس له من الصحة؛ فالرياضيات اليونانية تعتمد على مفهوم " النهائي " على حين أن الرياضيات العربية تعتمد على مفهوم اللانهائي. كما أن " المنطق " اليوناني كان " منطقا نظريا " على حين أن العلم العربي علم تجريبي في أساسه، والهندسة المعمارية اليونانية تعتمد على الخط المستقيم، أما الهندسة الإسلامية فهي سيمفونية من الأقواس والمنحنيات كما تبدو واضحة في المساجد، ومن ناحية الفلسفة نجد أن الفلسفة اليونانية ابتداء من " برمنيد " إلى " أرسطو " هـي فلسفة " الوجود " ، أما الفلسفة العربية الإسلامية فهي فلسفة " الفعل " والمأساة اليونانية لا يمكن تصورها في النظرة الإسلامية للحياة، كما أن الشعر العربي لا يعقل في التصور اليوناني للحياة بمفاهيمه " النهائية " و " الكمية " .

                  ** في الحقيقة.. هـذه الإيضاحات تنقلنا إلى سؤال آخر يتعلق بطبيعة الاختلاف بين الثقافة الأوروبية والثقافة العربية الإسلامية حول مفهوم العلاقة بين العلم والحكمة، الأمر الذي يؤكد عدم صحة المقولة الأوروبية التي تنال من دور الحضارة الإسلامية وتأثيرها. [ ص: 64 ] إن العلم العربي الإسلامي - على عكس مفهومنا الوضعي - لا يفصل بين العلم والحكمة، بمعنى أنه لا يغفل أبدا عن المعنى والغاية، ولا يفصل بين تحليل الروابط التي تصل الأشياء بعضها ببعض، وتساعد على اكتشاف القوانين التي تسوسها - وبين ربط هـذه العلاقة مع " الكل " الذي يكسبها " معنى " ، فهو علم دنيوي بعلاقاته مع الأشياء، وهو مقدس - حتى أبسط عناصره - لصلته بالخالق. وإن العلم يتحول إلى " علمية " إذا تخلى عن المعنى والسمو الروحي، كما تؤدي " التقنية " إلى تقنوقراطية ما دام التطور الكمي للعلم وللتقنية قد أصبح غاية في حد ذاته.

                  وفيما يتعلق بمقولات الأوروبيين فإن نهضة الغرب لم تبدأ في إيطاليا مع إحياء الثقافة الرومانية اليونانية، بل بدأت في إسبانيا مع إشعاع العلوم والثقافة العربية الإسلامية، ولكن النهضة الغربية هـذه لم تأخذ من العلوم الإسلامية سوى منهجها التجريبي وتقنياتها، وتركت جانبا الإيمان الذي يوجهها نحو الله تعالى ويسخرها لخدمة البشر. على حين أن الإسلام لا يفرق بين البحث عن القوانين والأسباب والبحث عن الغايات والمعاني. ولا بين القوة التي توفرها لنا التقنية للسيطرة على الأشياء، ووجوب استعمالها كوسيلة لعبادة الخالق. كما أن الإسلام لا يفرق بين الإيمان في الاقتصاد والإيمان في السياسة، بل على العكس يوحد بينهما في بنية واحدة على أساس إرجاع كل " ملك " وكل " مقدرة " كما هـو الشأن بالنسبة لكل " علم " إلى الله الواحد الأحد.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية