الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  مرحلة النقلة المباشرة اعتبر العلماء والمفكرون مرارا بأن خطواتهم في ميادين العلم والفكر قادتهم دوما إلى الإيمان المبصر بالله تبارك وتعالى، وربما يكون من المفيد والضروري أن يتعرف القارئ المسلم على قصة إيمان الرجل وهو يتلمس طريق الهداية، ويزيل الضباب والغشاوة عن بصيرته.

                  المفكر والفيلسوف العالمي جارودي ، كيف سارت رحلتك إلى الإيمان؟

                  بالنسبة لي، لا يعتبر الأمر تحولا من الإلحاد إلى الإيمان، فلم أكن في يوم من الأيام ملحدا؛ حتى عندما كنت عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي في [ ص: 57 ] عام 1933م، فقد كنت في الوقت نفسه رئيس الشبان المسيحيين كمسيحي [هذا اتفاق مع النظرية التي تقول: إن الشيوعية إنجاز نصراني لمعالجة القضية الاقتصادية]، وفي الحقيقة لم أكن مسيحيا بالميلاد لأن أبوي لم يكونا كذلك، لقد كانا ملحدين، ليس بسبب ارتباطهما بالشيوعية أو أي مذهب آخر، ولكنهما كانا من الأجيال التقليدية، لهذا فأنا أعتبر نفسي قد اخترت مرتين.

                  في عام 1933م عانت أوروبا من أزمة كبيرة، استمرت حتى عام 1939م - وهي الفترة نفسها التي شهدت صعود هـتلر إلى السلطة - وشهدت اختياري الأول - وكنت في هـذه المرحلة لا أزال طالبا - ويرجع السبب في اختياري النصرانية إلى رغبتي في أن أعطي لحياتي معنى في وقت كنا نعتقد - لشدة الأزمة - أننا نعيش نهاية العالم، أما الشيوعية فقد كانت الاختيار الوحيد الذي يطرح بديلا للخروج من أزمة الرأسمالية، كما أنه كان أفضل جبهة تقاوم هـتلر والنازية في هـذه الفترة.

                  وفي فرنسا - على سبيل المثال - كان معظم المشتغلين بالكتابة والفنون وأساتذة الجامعات، وحائزي جائزة نوبل إما أعضاء في الحزب الشيوعي أو أصدقاء للشيوعيين، وذلك بسبب الحالة السيئة التي نشأت عن أزمة الرأسمالية وتيار المقاومة لنازية هـتلر.

                  وقد أدى بي موقفي - في ذلك الوقت - إلى السجن لمدة ثلاث سنوات، حيث اعتقلت في سبتمبر (أيلول) 1940م بواسطة مارشال بيتان وحكومة " فيشي " . وبقيت رهن الاعتقال حتى نهاية الحرب العالمية الثانية في معسكر بمنطقة جلفا بالصحراء الجزائرية ، وهناك وقع حادث عجيب فعلا، فقد تزعمت تمردا في معسكر الاعتقال، وأجرى " الكوماندور " الفرنسي قائد المعسكر محاكمة سريعة، وأصدر حكما بإعدامي رميا بالرصاص، وأصدر أوامره بتنفيذ ذلك إلى الجنود الجزائريين المسلمين، وكانت المفاجأة عندما رفض هـؤلاء تنفيذ إطلاق النار، ولم أفهم السبب لأول وهلة؛ لأنني لا أعرف اللغة العربية، وبعد ذلك علمت من " مساعد " جزائري بالجيش الفرنسي كان يعمل في المعسكر أن شرف المحارب المسلم يمنعه من أن يطلق النار على إنسان أعزل، وكانت هـذه أول مرة أتعرف فيها على الإسلام من خلال هـذا الحديث الهام في حياتي، وقد علمني أكثر من دراسة عشر سنوات في السوربون . [ ص: 58 ] وعندما أطلق سراحي، بقيت في الجزائر مدة عام، وخلاله التقيت برجل عظيم، كان له أكبر الأثر في نفسي - هـو الزعيم الإسلامي الشيخ البشير الإبراهيمي ، رئيس رابطة العلماء المسلمين الجزائريين - وقد قمت بزيارته، بصحبة عمار أوزيجان (صاحب كتاب: الجهاد الأفضل) ، وفي مقر الشيخ الإبراهيمي لاحظت صورة كبيرة لرجل مهيب. ولأول مرة أتعرف على صاحبها، عندما شرح لي الشيخ البشير جوانب من حياة الأمير عبد القادر الجزائري - عدو فرنسا - كبطل محارب وعابد ناسك؛ بل كواحد من أعظم أبطال القرن التاسع عشر.

                  ويعتبر هـذا الدرس من الشيخ الإبراهيمي - بالنسبة لي - المرة الثانية التي ألتقي فيها بالإسلام.

                  بعد ذلك عدت إلى فرنسا، وكانت المرة الثالثة إبان الحرب الجزائرية، وأنا أعتبر الجزائر وطني الثاني، وقد اتخذت موقفا ضد الدعاية الفرنسية - كما هـو معلوم - ونشرت موضوعات كثيرة عن الممارسات الفظيعة التي كان يباشرها قادة الحرب من أمثال الجنرال بيجو .

                  أما آخر وأطول اتصال لي بالإسلام، فقد بدأ عام 1968م عندما ظهرت - في اعتقادي - أول بادرة تغيير عند الأوروبيين بشكل عام، وفي السياسية الفرنسية بشكل خاص، ولم يكن هـذا التغيير فوريا بطبيعة الحال، ولكنه كان فعالا لأنه يتعلق بمعتقدات وأفكار الناس، من الطلبة والعمال - وقد كنت في هـذه الفترة - أعمل أستاذا بالجامعة، ولكنني تعلمت من طلبتنا وعمالنا درسا كبيرا، مفاده أن بعض الأنظمة قد يشكل خطورة كبيرة بنجاحه أبعد من الخطورة التي تنتج عن فشله. ويتمثل هـذا النظام في النمط الغربي في التقدم والنماء، سواء كانت تعبر عنه رأسمالية تفرز الاستعمار والحروب والأزمات الداخلية المميتة، أو اشتراكية سوفييتية تضطهد شعبها، وتستغل العالم الثالث، وتتسابق إلى التسلح الرهيب والسيطرة؛ ذلك لأنهم في الاتحاد السوفييتي يتبنون النمط ذاته، ولنتذكر شعارات ستالين ومن بعده خروتشوف التي تركز على حتمية اللحاق بالرأسمالية وسباقها. وفي الحقيقة لا أدري أي نوع من الاشتراكية هـذه؟ هـل تهدف إلى إثبات أن الرأسمالية أفضل من الرأسماليين القائمين عليها؟! [ ص: 59 ] ولأنني عبرت عن اعتقادي بأنه في ظل هـذا النمط من التوسع والنماء يستحيل إقامة بناء اشتراكي، وأن الاتحاد السوفييتي ليس اشتراكيا بحال من الأحوال، وأن الاشتراكية ليس لها وجود في أي مكان في العالم، طردت فورا من الحزب الشيوعي، وكان ذلك في عام 1970م أي منذ ثلاثة عشر عاما.

                  بعد ذلك قمت بالتعاون مع مسئولى منظمة اليونسكو بتأسيس " المعهد الدولي لحوار الحضارات " بهدف إبراز دور البلاد غير الغربية وإسهامها في الثقافة العالمية، حتى يتوقف الحوار ذو البعد الواحد من جانب الغرب أو " المونولوج " الذي يقوم على وهم وعقدة التفوق عند الإنسان الغربي، وقمت بنشر عدة كتب في هـذا المجال تبرهن على أن الحضارة الغربية التي تمجد الفردية، وتبتر من الإنسان أبعاده الإنسانية، وتفصله عن السمو الروحي، وتغتال الفكرة الجماعية، وتضع حاجزا بين العلم والتقنية من ناحية وبين الحكمة من ناحية أخرى، هـذه الحضارة قد استنفدت أغراضها، ولم تعد لها ضرورة.

                  وأخيرا نشرت عدة كتب تدحض زعمهم بعدم إسهام العالم غير الغربي في الثقافة والحضارة الغربية منها كتاب " مبشرات الإسلام " و " الإسلام يسكن حضارتنا " .

                  وهكذا ترون كيف كنت قريبا من الإسلام، لأني بدأت السير على طريقه الموصلة بشكل مبكر.

                  **الفيلسوف المسلم جارودي : إن القدرة على النفاذ والإحاطة والفهم العميق قد تختصر الطريق إلى الإيمان، ولكن تبقى خفقة القلب، والهزة الروحية التي تحدث النقلة المباشرة؛ فهل يمكن أن نقف على تفاصيل هـذه المرحلة الهامة في حياتك؟

                  اتخذت خطوة علمية بعد تكشف الموقف الذي تتبناه الكنسية الكاثوليكية من القضية الفلسطينية - ولا أقول هـذا من منطق توجهات شخصية - ولكن يبدو لي أن الأسلوب الذي يسود الكاثوليكية، وطريقتهم في تعليم الأطفال الإنجيل في فصول كمدارس الأحد عند البروتستانت، هـذا الأسلوب يعتمد الدعاية الصهيونية، حيث يخلف انطباعا - على سبيل المثال - بأن أرض فلسطين قد منحت لليهود بوعد إلهي مقدس لإبراهيم عليه السلام ، الأمر الذي يوضح مدى تأثير اليهود في التعاليم النصرانية . وإبان الغزو [ ص: 60 ] الإسرائيلي الأخير على لبنان نشرت بيانا في صحيفة " لوموند " أعلنت فيه إدانة الصهيونية ، وكانت النتيجة أنني الآن ومدير تحرير " لوموند " نعتبر متهمين بمعاداة السامية. وعلى العكس من ذلك تماما، فإن الصهيونية لا تنبع من اليهودية كدين، إنما هـي نتاج مناخ القوميات العرقية والعنصرية في أوروبا في القرن الثامن عشر، فصل الدين عليها أو فصلت عليه، وتيودور هـرتزل - الذي أنشأ الصهيونية السياسية - لم يكن رجل دين، بل إنه إنسان ملحد، استخدم الإنجيل فقط لكي يثبت ادعاءاته.

                  على أي حال، فقد اتهموني بمعاداة اليهودية . ولا يفوتني هـنا أن أنوه بلقائي بسلمى نور الدين - زوجتي المسلمة - عندما دعيت إلى جنيف لإلقاء محاضرة حول كتابي " الإسلام يسكن حضارتنا " ، فقد رأيت فيها صورة حية للإسلام وسط محيط أوروبي، صحيح أنني زرت عدة بلاد إسلامية، مثل الجزائر - حيث تأثرت كثيرا بوجودي هـناك - والمغرب وإندونيسيا ومصر والعراق ، ولكني لم أكن أقترب كثيرا من العلاقات الحياتية للإنسان المسلم.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية