الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معطيات التجربة الإسلامية في السودان ولكن، هـنا في السودان ، تهيأت لنا ظروف من الابتلاء وظروف من نشأة فقه، حاولنا من أول يوم أن نتعامل مع المجتمع بيسر، وأن نتفاعل معه. وأهلنا ذلك، كذلك، أن نمد أسباب التعاون والتفاعل ذاتها مع السلطان، كما اكتشفنا في المجتمع قدرا كثيرا من الخير، وأن اليأس منه وقطع الثقة به جملة واحدة أمر غير مؤسس، وإنما يعين ذلك شيطانه عليه، ويضطره إلى أن يتخذ من الحركة الإسلامية موقفا معينا.

                  ولذلك، صالحت الحركة الإسلامية المجتمع وصالحت الدولة أيضا. صحيح أن المصالحة تعني أن يختلط الحق أحيانا بكثير مما يراه باطلا. وكثير من المسلمين يفزعون من هـذا الاختلاط ويريدون الحق بائنا في جانب والباطل بائنا في جانب آخر حتى يقولوا القولة المشهورة: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ فماذا بيننا وبينهم؟ ولكن، إذا اختلط الحق بالباطل، لا أقول اختلط في أذهان الناس ولكن اختلط في الواقع واتصل، قوى ذلك وزاد أهل الحق إيمانا، بهذه المجاهدة والمفاعلة. {كذلك يضرب الله الحق والباطل}. ومن هـذه المدافعة يحقق الله التدين، وبغير هـذه المدافعة تفسد الأرض كما يقول القرآن: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) - (البقرة:251) .

                  فمن خلال هـذه المفاعلة أعدى أهل الخير الشر، وحاصر أهل الخير الشر، ولم يحاصروا هـم ولم يستعيذوا ويفروا إلى شعاب الجبال، بل دخلوا معه في كل مدخل وطهروا منه الأرض. وتحقق بحمد الله سبحانه وتعالى هـذا القدر من الإيمان وتوحد عليه المجتمع بغير صراع، لأن الصراع - بالطبع - له مغبات كثيرة. وقد يضطر المسلمون للجهاد وقد يضطرون للصراع، وهذا باب وارد في الدين ولا نقول إن الدين لا يتأتى إلا من خلال المصالحة، ولكن هـذه الطريقة هـي الطريقة الحسنى.

                  لكن يبدو - والله أعلم - أن اعتماد أحد الطريقين بإطلاق فيه خطورة، [ ص: 47 ] وقد يوصل إلى طريق مسدود ويحول بين الدعوة وتحقيق أهدافها؛ ولذلك لا بد أن يفكر بالطرق الأجدى في كل مرحلة وبما تقتضي. إن صورة بعض العاملين للإسلام اليوم، أصبحت في أذهان بعض الحكام أنهم لا يريدون من وراء التعامل مع السلطان إلا أن يكونوا بديلا في الحكم وما إلى ذلك. فهذا ولد تهمة لهم بأنهم يطلبون السلطة. وقام نوع من الصراعات الشديدة ربما يكون قد أعان الشيطان على السلطان وحال بينه وبين أن يصل صوت الإيمان إليه في كثير من الأحيان.

                  شأن المسلم أن يستعد لكل ابتلاء بما يناسبه من التدين. ولما كان في وسائل ومناهج الدين سعة، لا يقابل المحسن إلا بالحسنى ويجادل بما هـو أرفق وألطف به، وإذا انقلب الأمر وجابهه العدوان فلا يستكين ولا يلين وإنما يرد العدوان بالجهد، كان لا بد أن تستعد الحركة الإسلامية بكل المناهج وكل الأدوات حتى تحسن وضع الأمور في مواضعها ولا تفوت فرصة لأنها تفقد - حينئذ - الأدوات المناسبة لهذه الفرصة.

                  ومن بعض وجوه البركة علينا أننا قدرنا بعد أن قام الدين هـنا، لا من تلقاء الحركة الإسلامية مباشرة، ولكن من مناصرتها وتعاونها، ووصل جهدها بجهد الحكومة القائمة، أن غمي الأمر بعض الشيء على بعض الذين يريدون أن يكيدوا للإسلام؛ لأنهم لو رأوا الحركة الإسلامية التي يرهبونها أيما رهبة ويتهمونها بالإرهاب، هـي بذاتها ووجهها تصل إلى الحكم، ربما حملوا على واقع الإسلام حملة أضخم بكثير مما تحتمل الطاقات المدافعة الدينية في هـذا البلد. ولكن الله سبحانه وتعالى يلطف بعباده ويستر ويحمي أحيانا ويلقي غشاوة على أعين الآخرين، ويعصم عباده الدعاة كما عصم الرسول صلى الله عليه وسلم من الناس. وقد يكون من بعض هـذه الغشاوة وهذه العصمة أن يتخذ الشكل الإسلامي شكلا يرونه أقرب إليهم مثلا شيئا ما، أو أقل بشاعة في أنظارهم، ولكن يبقى أن جوهر الحق واحد مهما كانت الأثواب التي يلبسها.

                  " ربيع الأول 1405 هـ - كانون الأول " ديسمبر " 1984م، ربيع الآخر 1405هـ - كانون الثاني (يناير) 1985م " . [ ص: 48 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية