الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  الاجتهاد وآفاقه الاجتهاد الشرعي فرض كفاية حينا، وفرض عين حينا آخر، وله مدلوله ومجاله وشروطه، هـل يمكن تحديد هـذه القضايا حتى لا تختلط الأمور، ويدخل باب الاجتهاد من ليس أهلا له؟

                  الاجتهاد هـو بذل غاية الجهد، واستفراغ غاية الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها؛ بطريق النظر وإعمال الفكر، وهو فرض كفاية على الأمة في مجموعها، تأثم إذا لم يتوافر لها عدد من أبنائها يسد حاجتها فيه، وهو فرض عين على من أنس [ ص: 157 ] في نفسه الكفاية له، والقدرة عليه، إذا لم يجد في المسلمين من يسد مسده.

                  والاجتهاد يعمل في منطقتين:

                  إحداهما: منطقة ما لا نص فيه، مما تركه الشارع لنا قصدا منه، رحمة بنا غير نسيان؛ ليملأ المجتهدون هـذا الفراغ بما يحقق مقصد الشارع، وفق مسالك الاجتهاد التي يتبعونها، من القياس أو المصلحة المرسلة أو الاستحسان أو استصحاب الحال - أو غير ذلك - ومن الملاحظ أن بعض المجالات كثرت فيه النصوص إلى حد التفصيل أحيانا، مثل: العبادات وشئون الأسرة، لأنها مما لا يكاد يتغير بتغير الزمان والمكان، والحاجة ماسة إلى نصوص ضابطة لمنع التنازع ما أمكن ذلك، وإلى جانب ذلك توجد مجالات تقل فيها النصوص إلى حد كبير، أو تأتي عامة مجملة، لتدع للناس حرية الحركة في الاجتهاد لأنفسهم - في ضوء الأصول الكلية - وفق مصالح مجتمعهم، وظروف عصرهم، دون أن يجدوا من النصوص المفصلة ما يقيدهم، أو يعوق مسيرتهم، كما في شئون الشورى ، ونظام الحكم، وقوانين الإجراءات والمرافعات وغيرها.

                  وثانيتهما: منطقة النصوص الظنية، سواء أكانت ظنية الثبوت - ومعظم الأحاديث النبوية كذلك - أو ظنية الدلالة ومعظم نصوص القرآن كذلك - فوجود النص لا يمنع الاجتهاد كما يتوهم واهم، بل تسعة أعشار النصوص أو أكثر قابلة للاجتهاد وتعدد وجهات النظر، حتى القرآن الكريم ذاته يحتمل تعدد الأفهام في الاستنباط منه، ولو أخذت آية مثل آية الطهارة في سورة المائدة، وقرأت ما نقل من أقوال في استنباط الأحكام منها، لرأيت بوضوح صدق ما أقول.

                  وبجانب هـاتين المنطقتين المفتوحتين للاجتهاد، توجد منطقة في الشريعة مغلقة بإحكام، لا يدخلها الاجتهاد، ولا يجد حاجة لدخولها؛ إنها منطقة القطعيات في الشريعة، مثل وجوب الفرائض الأصلية، كالصلاة والزكاة والصيام، وتحريم المحرمات اليقينية، كالزنا، وشرب الخمر، والربا، وأمهات الأحكام القطعية، كأحاديث المواريث المنصوص عليها بصريح القرآن، وأحكام الحدود والقصاص، [ ص: 158 ] وعدد المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، ونحو ذلك مما جاءت به النصوص القطعية في ثبوتها، القطعية في دلالاتها.

                  هذا النوع من الأحكام - التي لا يدخلها الاجتهاد - هـو الذي يجسد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة، فلا يجوز أن تدخل معترك الاجتهاد، ليبحث باحث: هـل يجوز السماح بالخمر من أجل السياح؟ أو نعطل الصيام من أجل زيادة الإنتاج؟ أو نجمد الحج توفيرا للعملة الصعبة؟ أو نعلق الزكاة اكتفاء بالضرائب الوضعية؟ أو نعطل الحدود والقصاص إشفاقا على المجرمين - كأننا أرحم من الله بعباده - ( قل أأنتم أعلم أم الله ) -[البقرة:140]. وهذا هـو الذي يجب الاحتراس منه:

                  أن نجتهد فيما لا يجوز فيه، أو أن يلج باب الاجتهاد من ليس أهلا له، ولا تتحقق فيه شروطه، وهذا هـو الذي دعا بعض العلماء قديما أن ينادوا بإغلاق باب الاجتهاد، ليسدوا الطريق على الأدعياء والمتطفلين. على أن باب الاجتهاد سيظل مفتوحا، ولا يملك أحد إغلاقه بعد أن فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يسع فردا أو مجموعة من العلماء أن يقولوا في واقعة تعرض عليهم: ليس لنا حق الاجتهاد فيها، لأن الأقدمين لم يقولوا شيئا في شأنها، إذ الشريعة لا بد أن تحيط بكل أفعال المكلفين، وأن يكون لهم حكم في كل واقعة، وهذا ما لا يختلف فيه اثنان.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية