الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  فقه المعركة.. وفقه الأوراق طرح بعض الكتاب والعاملين في إطار الحركة الإسلامية، قضية هـامة - في نظرنا على الأقل - وهي أن هـناك فقها يسمى فقه المعركة، أو فقه الحركة، ويقصد به الفقه الميداني الذي تكسبه التجارب والمعاناة، مستهديا بقوله تعالى: ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم ... ) (التوبة: 122) وأن هـناك فقها نظريا بعيدا عن المعاناة، لا يخرج عن كونه تصورات مجردة لا قيمة عملية لها، أسماه فقه الأوراق. ما رأيكم بهذه القضية؟ وما الحدود الفاصلة بين فقه المعركة وفقه الأوراق؟ وهل هـذه التفرقة دقيقة؟ [ ص: 187 ] ** (فقه الأوراق) هـذا - إن صحت التسمية - ليس فقها، وليس اجتهادا حقيقيا، الفقه الحق، والاجتهاد الحق هـو الذي ينطلق من معايشة الناس، ومعرفة ما هـم فيه، والفقيه الحق هـو الذي (يزاوج بين الواجب والواقع) كما يقول الإمام ابن القيم . فلا يعيش في دائرة ما ينبغي أن يكون غافلا عما هـو كائن وواقع بالفعل. إن (فقه الدين) لا يمكن أن ينفصل عن (فقه الحياة) ، وهو هـو (الفقه القرآني) .

                  فالفقه في نظر القرآن يشمل الفقه في أمر الله وشرعه، كما يشمل الفقه في سننه في خلقه. ولهذا وصف القرآن المشركين والمنافقين بأنهم {قوم لا يفقهون} وقال بعد أن ذكر بعض آيات الله في الكون: ( قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) (الأنعام: 98)

                  فالفقه هـنا أعمق وأوسع من مجرد معرفة الأحكام الشرعية الجزئية من أدلتها التفصيلية؛ إنما هـو إدراك بصير يربط أحكام الله في شرعه بعضها ببعض، ويربط قوانين الله في أرضه بعضها ببعض. ولا يكتفي بالنظر إلى السطوح دون الأعماق.

                  ويزداد هـذا الإدراك عمقا بالخوض في معترك الحياة، والصراع مع الفراعنة والطغاة، والدخول في أتون الابتلاء والمحن، الذي ينفي الخبث، ويصقل المعادن، ويميز الخبيث من الطيب.

                  لقد مر شيخ الإسلام ابن تيمية مع بعض أصحابه على قوم من جنود التتار يشربون الخمر ويلهون بأقداحها سكارى مخمورين، فأنكر عليهم بعض من معه، فقال له الشيخ: دعهم في سكرهم، فإنما حرم الله الخمر، لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل الأنفس، ونهب الأموال!

                  وهذا هـو الفرق بين (الفقيه الحرفي) أو ما سميته (فقيه الأوراق) وبين فقيه الحياة أو فقيه الميدان والمعركة. الأول أنكر المنكر الذي رآه دون اعتبار للمقصد والدافع، والثاني نظر إلى الواقع في ضوء المقاصد، فقال ما قال.

                  لقد رأينا فقهاء الأوراق، يقاتلون على أشياء يمكن التسامح فيها، أو الاختلاف عليها، أو تأجيلها إلى حين، ويغفلون قضايا حيوية مصيرية، تتعلق بالوجود الإسلامي كله. وهؤلاء قوم قد لا ينقصهم الإخلاص، ولكن ينقصهم الفقه، ولئن جاز تسميتهم (علماء) فلا يجوز تسميتهم (فقهاء) لو كانوا يعلمون.

                  (رمضان 1408هـ أبريل 1988م) . [ ص: 188 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية