الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  الاجتهاد الإنشائي والاجتهاد الانتقائي هـناك قضايا معاصرة يحتاج المسلمون فيها إلى فقه متجدد يحل لهم مشكلاتهم، ما هـي أهم هـذه القضايا؟ وكيف ترى هـذه الأمور داخل إطار العملية الاجتهادية؟

                  نظرا لتغير شئون الحياة عما كانت عليه في الأعصار الماضية، وتطور مجتمعات اليوم تطورا هـائلا في الأفكار والسلوك والعلاقات، فإن عصرنا الحاضر أحوج ما يكون إلى [ ص: 162 ] الاجتهاد، وذلك بعد الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم، وكان من جرائها أن طرحت قضايا جديدة كل الجدة مثل: أطفال الأنابيب، وشتل الجنين، وزرع الأعضاء، ونقل الدم، وما جد في العلاقات الدولية والأنظمة المالية والاقتصادية من أشياء لم يعرفها السابقون، أو عرفوا بعضها في صورة مصغرة جدا.

                  فهذه وما شابهها تقتضي اجتهادا جديدا، وهو ما نسميه (الاجتهاد الإنشائي) أي: الذي يصدر فيه المجتهدون حكما جديدا، وإن لم يتقدم من قال به من فقهائنا السابقين، ولم ينص عليه أحد! مثل زكاة العمارات والمصانع والأسهم والسندات والرواتب، واعتبار الذهب وحده أساس نصاب النقود، وإيجاب زكاة الأرض المستأجرة على كل من المالك والمستأجر، كل فيما وصل إليه إذا بلغ نصابا، فالمالك يزكي الأجرة بمقدار زكاة الخارج من الأرض، والمستأجر يزكي الخارج من زرع أو ثمر؛ طارحا منه الأجرة، لأنها دين عليه.

                  وهناك اجتهاد آخر أسميه " الاجتهاد الانتقائي " وهو اختيار أرجح الأقوال من تراثنا الفقهي العظيم، مما نراه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق، وأليق بظروف العصر؛ وقد يكون الانتقاء داخل المذاهب الأربعة مثل ترجيح مذهب أبي حنيفة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، وترجيح مذهب الشافعي في إعطاء الفقير كفاية العمر، وترجيح مذهب مالك في إبقاء سهم المؤلفة قلوبهم.

                  وقد يكون الانتقاء من خارج المذاهب الأربعة؛ فالأئمة الأربعة على جلالتهم وفضلهم ليسوا كل الفقهاء، فهناك من عاصرهم من نظرائهم، ومن يمكن أن يكون قد تفوق عليهم، وهناك من سبقهم من شيوخهم من فقهاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ممن هـم أفضل منهم بيقين.

                  فلا حرج في الأخذ بمذهب أحدهم إذا ترجح لدينا باعتبارات شرعية، كالأخذ بمذهب عمر رضي الله عنه في التضييق في زواج الكتابيات إذا خيف منهن على نساء المسلمين أو الذرية، أو خيف عدم التدقيق في شرط الإحصان ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) [المائدة:5] أي: العفيفات منهن، أو الأخذ بمذهب عطاء في إيجاب المتعة لكل مطلقة، أو الأخذ بمذهب بعض السلف في عدم وقوع الطلاق في حالة [ ص: 163 ]

                  الغضب الشديد، وهو ما فسروا به حديث ( لا طلاق في إغلاق ) أو مذهب بعضهم في إيقاع طلاق الثلاث بلفظة واحدة أو في مجلس واحد، طلقة واحدة رجعية فقط، وهو ما أفتى به ابن تيمية وابن القيم ، ومثله: عدم إيقاع الطلاق البدعي؛ أي الطلاق في حالة الحيض، وكذلك الطلاق إذا أريد منه الحمل على شيء أو المنع منه، فيعامل معاملة اليمين، وفيه كفارة يمين.

                  ونحو ذلك الأخذ بمذهب بعض السلف في وجوب الوصية لمن لا يرث من الأقربين، وعلى أساسه قام في مصر وغيرها قانون " الوصية الواجبة " للأحفاد إذا مات آباؤهم أو أمهاتهم في حياة والديهم، فلهم نصيب الوالدين بشرط ألا يزيد على الثلث.

                  ومن ذلك ما رجحه الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر من الإفتاء بمذهب عطاء وطاوس من التابعين في جواز رمي الجمرات قبل الزوال في الحج، تيسيرا على الناس، ورفعا للحرج والمشقات الهائلة التي يتعرض لها الناس من الزحام حول المرمى، إلى حد الهلاك تحت الأقدام.

                  والاجتهاد الذي نحتاج إليه في عصرنا هـو " الاجتهاد الجماعي " الذي يقوم في صورة مجمع فقهي عالمي، يضم الكفايات العلمية العالية، ويصدر أحكامه بعد دراسة وفحص، بشجاعة وحرية، بعيدا عن ضغط الحكومات، وضغط العوام.

                  ومع هـذا أؤكد أنه لا غنى عن الاجتهاد الفردي الذي ينير الطريق أمام الاجتهاد الجماعي بما يقدم من دراسات متأنية مخدومة.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية