الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  مشكلات النظام غير الإسلامي هـناك مجموعة أمور نرى أن لها علاقة وثيقة بقضايا الاجتهاد:

                  يرى بعض الكتاب والمفكرين الإسلاميين أن الإسلام كفيل بحل المشكلات الذاتية الناجمة عن تطبيق نظامه بعد أن تجذرت أسبابها بسبب إبعاد الشريعة عن الساحة، وأن سبب كثير من المشكلات التي نراها هـو تطبيق أنظمة غير إسلامية، ولو طبق النظام الإسلامي لما كان لها وجود، ولما احتاجت إلى اجتهاد وحلول، وأن الاجتهاد لمثل هـذه المشكلات يمكن أن يصنف في باب إيجاد المبررات أو المسوغات لحركة المجتمعات غير الإسلامية، ويأتي على حساب العمل لإقامة المجتمع الإسلامي، وإن الإسلام يأبى مثل هـذا التجزيء والتبعيض، ويجب أن يؤخذ ككل، حتى شاعت الكلمة المشهورة: " خذوا الإسلام جملة أو دعوه " .

                  وقد لا تكون المشكلة - كما نتصورها - بهذه السهولة، خاصة وأن هـذه المجتمعات هـي مجتمعات مسلمين، إن لم نشترط في تسمية المجتمع الإسلامي، أن يكون ملتزما الإسلام في نظامه. [ ص: 170 ] والمسلمون يواجهون بمشكلات كثيرة لا بد لهم من التعامل معها.

                  فما مدى دقة هـذا الرأي؟ وهل نترك المسلمين تائهين، أم لا بد لنا من الاجتهاد في بيان حكم الشرع، فيما يقع ضمن مقدورهم؟

                  قد ناقشت هـذا الرأي حول (الاجتهاد المعاصر ومدى جديته وجدواه) في الفصل الأخير من كتابي " الاجتهاد في الشريعة الإسلامية " مناقشة تفصيلية، وخلاصة ما أقوله هـنا أنني أقدر وجهة نظر هـؤلاء الكتاب والمفكرين الإسلاميين، وأقدر دوافعهم التي دعتهم إلى هـذا القول، وهم مأجورون إن شاء الله على اجتهادهم، أصابوا فيه أم أخطؤوا.

                  ولكني أخالفهم في هـذا الاتجاه، وأرى أن من واجب الفقيه أو المفكر المسلم أن يجيب الناس المسلمين من حوله إذا سألوه: ماذا سيصنعون في شئونهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم القائمة بالفعل؟ وما الحل لما يعانون من مشكلات، وإن كان سببها البعد عن الإسلام؟

                  إنك لا تستطيع أن تؤجل الإجابة حتى يقوم المجتمع المسلم الكامل، وتستأنف الحياة الإسلامية المتكاملة. ولا تستطيع أن توقف عجلة الحياة الاجتماعية، فلا تتحرك يمنة ولا يسره، حتى تعود أحكام الإسلام كلها.

                  إن الناس ولا بد سيظلون يبيعون ويشترون، وينتجون ويستهلكون، ويتبادلون السلع والخدمات، وينشئون فيما بينهم علاقات متنوعة، متأثرين في هـذا كله بمؤثرات شتى، عقائدية وثقافية واجتماعية وسياسية. ومن هـذه الأشياء ما يوافق الإسلام كل الموافقة، ومنها ما يخالفه كل المخالفة، ومنها ما يوافق في بعض، ويخالف في بعض.

                  والمسلم الحريص على دينه لا بد أن يسأل: ما موقفي من هـذا؟ كيف أتعامل مع البنك، ومع التأمين، ومع الأسهم والسندات، ومع شهادات الاستثمار؟ ... الخ.

                  كما يسأل آخرون عن هـذه المؤسسات القائمة التي برزت في غيبة الشريعة الإسلامية، والحياة الإسلامية، والتي لا ينكر أن بعضها كان من زرع الاستعمار إبان سطوته ونفوذه؛ هـل هـذه المؤسسات مرفوضة من ألفها إلى يائها؟ أم منها ما يقبل، ومنها ما يرفض؟ وإذا كانت مرفوضة فما البديل الإسلامي لها؟ أم لا يوجد بديل لها في الحل الإسلامي؟ [ ص: 171 ] إننا نعلم أن الله تعالى لا يحرم على الناس شيئا إلا وفي الحلال ما يعوضهم عنه. ولا يمكن أن يسد الشارع على الناس بابا إلا ويفتح لهم بابا - وربما أبوابا - خيرا منه. وهذا كله يوجب علينا أن نجتهد في ضوء نصوص الشرع وقواعده للبحث عن حلول إسلامية للمشكلات التي يعانيها الناس، ويريدون أن يعرفوا حكم الشرع فيها، وكيف يتعاملون معها. وأن نجتهد كذلك لإيجاد البدائل النظرية الإسلامية للمعاملات والمؤسسات غير الإسلامية، حتى يهيئ الله من يحول البدائل النظرية إلى واقع عملي، كما حدث بالنسبة لفكرة البنوك الإسلامية. كل ما أؤكده هنا أشد التأكيد هو تحذير المجتهد أو المفكر المسلم من الخضوع لضغط الواقع القائم، ومحاولة تبريره والاعتساف في تفسير النصوص،ولي أعناقها، لإضفاء الشرعية عليه؛ مع أن هذا الواقع لم يصنعه الإسلام ولا المسلمون مختارين، بل صنع لهم، وفرض عليهم، وأورثوه بعد ذلك فاستسلم له من استسلم، من باب الرضا بالأمر الواقع، كما يجب على المجتهد المسلم ألا ينسى بحال أن الإسلام نسيج وحده، وأنا لسنا عبيدا للحضارة الغربية، وأن لنا ديننا، وللغرب دينه، ولنا تراثنا، وله تراثه. فنحن نأخذ منه وندع وفقا لمواريثنا وقيمنا الدينية والحضارية، ولا نقبل أن نتبع سننه شبرا بشبر، وذراعا بذراع. على أن كثيرا من المجالات التي تحتاج إلى اجتهاد جديد ليس ناشئا عن تطبيق أنظمة غير إسلامية، بل هي من ثمار تطور الحياة والمجتمعات في العصور الحديثة، وخصوصا بعد ثورة التكنولوجيا، ووثبات علم الطب والجراحة، وثورة الاتصالات والمعلومات،وغزو الفضاء، وصنع (الكومبيوتر) ... الخ، مما أثار مشكلات لا تعد، تحتاج إلى حلول،وأسئلة لا تحصى، تحتاج إلى إجابات. فهل يسعنا أن نصمت ونغلق أفواهنا، حتى يحكم الإسلام مائة في المائة، أم نجتهد لبيان موقف الشرع من هذه المستجدات، وأجرنا على الله؟ أعتقد أن واجبا علينا أن نجتهد في هذه المجالات وتلك، محاولين أن نجلي موقف الإسلام في غير غلو ولا تفريط، ولا حرج علينا إن أخطأنا في محاولاتنا، فسيوجد من يهديه [ ص: 172 ] الله للصواب، ولن تجتمع هـذه الأمة على الضلالة. والاجتهاد من أهله ولو أخطأ خير من الجمود، وإبقاء كل شيء على ما هـو عليه، فالجمود موت والاجتهاد حياة. والمجتهد مأجور، والجامد غير معذور.

                  أما عبارة (خذوا الإسلام جملة أو دعوه ) فهي صحيحة إذا رفعت شعارا في وجه من يقول: نأخذ بعض الإسلام ونرفض بعضه الآخر، مثل: نأخذ بالصلاة، ولا نأخذ بالزكاة، نأخذ بتحريم الميتة والدم، ولا نأخذ بتحريم الخمر والميسر، نأخذ أحكام الأسرة، ولا نأخذ أحكام الحدود، هـكذا، فمثل هـؤلاء نقول لهم ما قاله الله تعالى لبني إسرائيل: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) (البقرة: 85)

                  بيد أننا ننبه على أن الاجتهاد في عصرنا له مزالق كثيرة، انزلق إليها كثيرون، ولم ينج منها إلا الراسخون في العلم، الذين يجمعون بين الثقة والورع والاعتدال.

                  كما أن الاجتهاد الصحيح المنشود له معالم وضوابط يجب أن يحرص عليها من وضعته الأقدار في موضع من يجتهد أو يفكر للمسلمين.

                  وقد تحدثت عن هـذه الضوابط، وتلك المزالق، بالتفصيل اللازم، في مقام آخر.

                  أما إذا وجد إنسان مسلم غريق في المحرمات، ويريد أن يتوب من بعضها، وإن بقي مصرا على بعضها الآخر، فتوبته مقبولة كما قرر ذلك أئمة الإسلام، مثل الغزالي وابن القيم وغيرهما. ولا يشترط في التوبة أن تكون من جميع الذنوب، وإلا لحجرنا ما وسع الله تعالى.

                  ومثل هـذا يقال في المجتمع المسلم، الذي يريد أن يتطهر من بعض الموبقات، التي ورثها من عهود سابقة، ويريد أن يتقدم خطوة نحو التطبيق الكامل للإسلام، فنحن نرحب بهذه الخطوة، ونطالب بالمزيد.

                  ومثل ذلك لو حدث عدوان على البقية الباقية من تشريع الإسلام في مجتمعنا، مثل قوانين الأسرة والميراث والوصية والوقف وغيرها. فإذا حاول الحكام تقليصها أو الاعتداء على شيء منها، فلا يمكن أن نقابل ذلك بالصمت والاستسلام، مبررين ذلك بهذه الدعوى الغريبة: إما الإسلام كله، وإما لا شيء!! [ ص: 173 ]

                  ولا أنسى أن أقرر هـنا أن الاتجاه إلى رفض الاجتهاد في قضايا المجتمع، واتهام الذين يفتون الناس في هـذه الأمور بالهزيمة النفسية إنما هـو فرع عن أصل كبير، هـو القول بجاهلية المجتمع الحالي، فليس هـو بالمجتمع الإسلامي الذي نبحث له عن حلول لمشكلاته، بل يجب أن ينصب بحثنا وعملنا على دعوته إلى عقيدة الإسلام قبل كل شيء، حتى يفهم معنى (لا إله إلا الله) ويصح إسلامه.

                  ومن أجل هـذا أنكر هـذا الاتجاه الدعوة إلى محاسن النظام الإسلامي، وبيان مزاياه وفضائله في مقابلة الأنظمة المستوردة من الشرق أو الغرب؛ إذ لا معنى لبيان النظام والعقيدة مفقودة.

                  ويمكن أن يتفرع عن القضية السابقة قضية أخرى هـي: أن بعض المسلمين اليوم يرى ضرورة إرجاء الاجتهاد في الفرعيات، والمشكلات التي تعترض المسلمين حتى تقوم الدولة الإسلامية التي تلتزم الإسلام عقيدة وشريعة في شئونها كلها، إلى درجة يخشى معها التنازل عن بعض الأحكام الشرعية الواقعة ضمن تكليف الأفراد.

                  طالما سمعت مثل هـذه الأفكار، وعجبت منها! فالفقيه المسلم لا يسعه أن يسأل عن شيء يقع لمسلم، وعنده علم يستطيع أن يجيب به ثم يصمت ويدعه في حيرته، ويكتم عنه علمه والحديث يتوعد من فعل ذلك بعذاب الله تعالى ( من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) والشريعة لا تقف عاجزة أمام أي قضية، سواء وجدت دولة الإسلام الكاملة أم لم توجد، فلا بد لها من حكم على أي فعل لكل مكلف، في أي حال كان. ولا يخلو عمل لمسلم مكلف من حكم شرعي من الأحكام الخمسة.

                  ولو أن مسلما يعيش في غير دار الإسلام، فإن أحكام الشريعة لا تدعه، لا بد أن تبين له الحلال والحرام والواجب والمستحب والمكروه من تصرفاته حيث كان.

                  ولا يمكن أن نمنع الفلك من الدوران حتى تقوم الدولة الإسلامية ولا أن نسقط عن الناس فرائض الإسلام وواجباته حتى تقوم تلك الدولة. بل على المسلم أن يؤدي منها كل ما قدر عليه في نفسه وأسرته ومن حوله ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن: 16) فهو يقيم الصلاة، [ ص: 174 ] ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، ويدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدافع عن حرمات الإسلام، ويقاوم المبطلين وكلها يحتاج إلى جهاد واجتهاد.

                  وأعتقد أن الدولة الإسلامية لن تقوم إذا ظل كل هـمنا هـو انتظارها، وإرجاء كل اجتهاد أو جهاد حتى تقوم، فهي (مهدينا) الغائب المنتظر، الذي لا حيلة لنا في ظهوره.

                  إن الواجب في رأيي هـو العمل المستمر، والاجتهاد ، والإعداد حتى تقوم الحياة الإسلامية المتكاملة المنشودة، ولو اجتهدنا وأخطأنا فلا ضير علينا؛ فلكل مجتهد نصيب.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية