الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  قضية الابتعاث أعتقد أنه ما من شك أن تخلف المسلمين هـو الذي حال دون الخطوات الصحيحة المتميزة، لأنهم حينما كانوا يتمتعون - تاريخيا - بمعدة هـاضمة علميا، وكانوا على درجة من التصور الإسلامي الصحيح لم يقعوا في هـذه المشكلة، فنحن الآن - في الحقيقة - واقعون في المشكلة بسبب التخلف عن الوظيفة الإسلامية لعمارة الأرض، وبسبب التخلف عن الثقافة الإسلامية وأبعادها الحقيقية، والانفصال العلمي الذي يمارسه المسلم بين الدين والحياة؛ وإن كان هـو يرفع شعارات تعاكس ذلك، يقول إن الإسلام دين شامل لجميع جوانب الحياة، ولكننا نراه في الممارسة يعيش على جانب ويدع بقية الجوانب. المطلوب كيفية الخروج، كيف ننتهي من الأمنيات؟ من أمنية إعادة صياغة العلوم أو هـضم العلوم، أو ما هـي كيفية تعامل المسلم مع الواقع من خلال التصور الإسلامي؟ وما هـي الوسائل العلمية في نظرك؟ [ ص: 77 ] لا بد لي أن أقول - قبل الإجابة - بأنه إذا أردنا أن نصحو علميا وتقنيا، فعلينا أولا أن نعيد صياغة المعارف بتصور إسلامي صحيح وباللغة العربية، وأن نبني مدارسنا العلمية بأيدينا، لا يمكن أبدا للأجنبي أن يبني قاعدة علمية في بلد مسلم البناء الذي نأمله، فمثلا، قضية الابتعاث المستمرة للخارج قضية تهدم مبدأ التقدم العلمي والتقني من أساسه، لأن أي شاب - والجامعات عادة تبني قواعدها العلمية بشبابها - بعث به للخارج - بغض النظر عن أني أعرضه لعملية غزو فكري رهيبة - يتعرض لتصيد من الكنيسة، ومن اليهودية وعملائها، والحركات الاستخبارية، هـذه كلها عوامل نفسية تحول دون النمو العلمي والتقني للشباب، بالإضافة إلى ذلك، فإننا نبعثه في جو غريب يستخدم أجهزة قد يعود إلى بلده ولا يجدها، ومكتبة قد يعود إلى جامعته ولا يرى مثلها، وقد يوجه دراسته إلى التركيز على مشكلة قائمة هـناك قد لا تهم البلد المبتعث منه، وحينما يعود يشعر أنه قد فصل من البيئة التي تربي فيها علميا، هـذا بالإضافة إلى أنه قد أصبح اليوم - لدى كثير من الجامعات الغربية - اعتقاد أن المسلم ليس ضروريا أن يتعلم جيدا، ويمكن أن يعطى الشهادة التي يحتاجها، ولكن حين أقوم ببناء قاعدة علمية في بلدي، فالشباب هـو الذي يصمم الجهاز الذي يريد أن يعمل عليه، ويعمل على توفيره، وهو الذي يطلب الكتب التي تلزمه، وينشئ مكتبة جيدة، ويبدأ بدراسة مشكلة محلية فيساعد على حلها.

                  والقاعدة العلمية كالشجرة - حقيقة - تحتاج لمد جذورها إلى الأعماق حتى تؤتي ثمارها، لدينا في العالم الإسلامي جامعات عمرها أكثر من خمسين سنة - وهذا صحيح - ولكن ماذا قدمت إلى الآن؟ إنها لا تزال تعيش في الغالب على الابتعاث!!

                  هـل تعتقد أنه بواقع العالم الإسلامي الآن نستطيع أن نلغي عملية الابتعاث؟ أنا أرى أن القضية قد حل بعضها ولا يزال بعضها الآخر متوقفا بانتظار الحل، بحيث يمكن أن نفكر بإلغاء بعض جوانب عملية الابتعاث في الصورة التي هـي عليها الآن - على مراحل - ونضع خطة للانتهاء منها، فإلغاء الابتعاث فورا قضية قد تعود على العالم الإسلامي بشيء من الانغلاق لأن الجامعات الآن غير مؤهلة لما تطرحونه، فإذا استطعنا أن نهيئ دليلا ثقافيا من خلال الرواد الذين أدركوا خطورة عملية الابتعاث وأبعادها، [ ص: 78 ] وننبه إلى أهمية المراكز الإسلامية - التي أصبحت حصون حماية في الغرب إلى حد بعيد - ونضع عمرا لانتهاء عملية الابتعاث بشكل عام، ونقتصر على حاجاتنا، يمكن أن نرى في ذلك طريقة صحيحة أكثر من عملية الانغلاق وإلغاء الابتعاث، لأننا لم نر من الابتعاث غير وجهه الشرير تاريخيا، وإلى جانب ذلك رأينا بعض النماذج الفاضلة؛ فبعض الأخوة الذين ذهبوا، عادوا إلينا أكثر ثباتا وأعمق شعورا بالتحدي الحضاري، وأحسنوا عملية الاستفادة، واحتفظوا بإسلامهم، وقدموا لنا أشياء ومعالم كثيرة.

                  لا شك أنني حينما أنادي بإلغاء الابتعاث، لا أنادي بإلغائه بين يوم وليلة، فلا بد من وضع برنامج تتم العملية بموجبه على مراحل تدريجية؛ عبر عشر سنوات أو خمس سنوات - حسب إمكانية كل بلد - ولكن دعني أقدم لكم أنموذجا طيبا:

                  لقد كنت مدعوا إلى مؤتمر علمي - عقد في باكستان - وقمنا خلاله بزيارة مركز الأبحاث في لاهور ، وهزني أن أرى كل جهاز في هـذا المركز مصمما ومصنوعا بأيد باكستانية، على الرغم من أن المركز فقير من الناحية المادية، هـذه هـي عملية بناء القاعدة العلمية، أما أن نقتصر على الابتعاث فلن نبني قاعدة علمية محلية أبدا، ومعنى هـذا أن يبقى الابتعاث هـو البداية والنهاية، ونظل دائما في موطن التلقي.

                  هـذا إذا لم نرسم له عمرا معينا لننتهي من الكثير منه، ونقيم القواعد العلمية والمختبرات في جامعاتنا، وإلا سنبقى في مرحلة التخلف التي يريدها لنا الغرب. المطلوب هـنا هـو إعطاء عمر لإنهاء الابتعاث بشكله القائم وليس الانغلاق دونه.

                  أنا لا أرى الانغلاق حتى بعد أن نوقف الابتعاث أو نحد منه، فحين أحقق إنشاء القاعدة العلمية في بلد ما، سيقوم العلماء الذين انتهوا من مرحلة الدكتوراه محليا بزيارات علمية، ويحضرون مؤتمرات، ويتبادلون البحوث والدراسات المتقدمة، وذلك لأن عملية التبادل العلمي والثقافي تساعد في إحداث النضج المطلوب. نحن لا ننادي بالانغلاق، فالعلم ليس ملكا لأمة من الأمم، ولا لشعب من الشعوب، [ ص: 79 ] ونحن أولى الناس به، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أولى بها.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية