الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  أخلاق المعرفة الحقيقة أنه في فترة التخلف التي سادت العالم الإسلامي وأصابت عقول بعض الناس بوهم كيفية الإنقاذ من التخلف، كان أقرب سبيل لهم أن قاسوا حالهم وواقعهم على أصول الحضارة الغربية في نظرتها وفلسفتها الحضارية. لذلك توهموا أن ترك الدين هـو الذي يخلصهم من التخلف كما فعلت أوروبا ، فوقعوا بالمشكلة، لذلك أقول: إن الإسلاميين - بشكل عام الآن - استطاعوا أن يقدموا الدليل ليحطموا الأسطورة التي عششت في عقول كثيرين في العالم الإسلامي من ضرورة الفصل بين العلم والدين ليحصل التقدم، بأن قدموا نماذج على أعلى درجات من التخصص العلمي والتفوق، وفي الوقت نفسه يمكن أن تمثل أعلى مراتب التصور والفهم الإسلامي والثقافة الإسلامية، وهذه قضية أعتقد أن لها أثرا تربويا كبيرا على الجيل المسلم.

                  هـذا في الحقيقة ينقلنا إلى الناحية التربوية من الموضوع، فليست القضية قضية تفوق علمي بقدر ما هـي - في الأصل - قضية تربوية، كيف نربي الفرد المسلم على فهم صحيح؟ وأنا ممن يؤمنون بأن أحد الأسباب الرئيسة لتخلف جامعاتنا في العالم الإسلامي [ ص: 74 ] - على كثرتها ووفرة إمكاناتها - أن هـذه الجامعات لم تنطلق من منطلق إسلامي، وليس لديها التزام أخلاقي، فهي جامعات أسست على نظم غربية، وفكر غربي، أو جامعات غربية في أرض إسلامية، وهذا بدوره أدى إلى نوع من الازدواجية عند الطالب بثقافته الإسلامية المحدودة حين يتعلم من كتب غير إسلامية، وبمفاهيم وقيم غير إسلامية، فلا نظام التعليم والامتحانات، ولا المناهج والأساليب التي يعامل بها الطالب، ويتعامل بها الأستاذ نابعة من منظور إسلامي، من هـنا كانت حصيلة نظمنا التعليمية ضئيلة للغاية، ومن يخرج منها ثابتا على دينه وفاهما لرسالته في الحياة قلة نادرة، أما الكم الأكبر، فإن العملية التربوية ذاتها تفسده.

                  يمكن أن نلخص ذلك بأن المشكلة ليست في العلم فقط، لكن في خلق العلم وهدفه المفقود في الفلسفة الغربية، وليست في المعرفة بقدر ما هـي في أخلاق المعرفة، لأن الخلق هـو الذي يصرف المعرفة إلى المواقع الخيرة أو الشريرة.

                  ولذلك نلاحظ أن نظام التعليم الغربي على الرغم من تفوقه الملحوظ في بناء قواعد علمية وتقنية جيدة، وفي بناء متخصصين في القضايا المختلفة على مستوى جيد، وفي توفير المكتبات والمختبرات، إلا أنه ينهار في ناحية بناء الإنسان، وتشير التقارير التحليلية إلى أن أسوأ الناس سلوكا هـم أعلى الناس تعلما في الغرب. وهذه ظاهرة يدركها التربويون، وكتبوا عنها كثيرا، ومن ذلك أنهم لاحظوا أن التعليم أصبح من أجل الشهادة، والشهادة من أجل الاستعلاء في الأرض والتسلط، وقد أدى هـذا إلى ظهور نوعيات من البشر، تشقى بها البشرية الآن. وأذكر أن مؤتمرا عقد عام 1981م في استوكهولم - السويد - تحت عنوان: العلم والتقنية في الحضارة الغربية وفي الإسلام، حضره سبعة علماء من المسلمين وثلاثون من غير المسلمين. وكان الحوار فيه مفتوحا لثلاثة أيام، حول قضية التقدم العلمي والتقني المعاصر في الفلسفة الغربية وفي الإسلام، وانتهى إلى قرار تاريخي لم يحدث أن وصل إليه مؤتمر من المؤتمرات، حيث قرر أن التقدم العلمي والتقني الحالي يتهدد البشرية بمصير لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى، فحجم المخزون من الأسلحة النووية والكيميائية والجرثومية لدى الطرفين المتنازعين - روسيا وأمريكا - أكبر مما يحتاجه تدمير الحضارة المعاصرة عدة مرات. [ ص: 75 ] والناس - حيال ذلك - في الغرب يقفون موقفين: إما التسليم بالأمر الواقع، حيث يقولون إن هـذا قدر البشرية، وعليها أن تسير فيه إلى النهاية، أو موقف الرفض التام على أساس أن هـذا بلاء جاء نتيجة التقدم العلمي، وعلينا أن ننبذه وراء ظهورنا ونعود مرة أخرى إلى " حياة الطبيعة " .

                  ظهرت بالفعل حركات تنزع إلى الهروب من المجتمع والعيش في أحضان الطبيعة، بل إن مدنا في أمريكا وأوروبا تحرم الآن دخول الآلة الحديثة التي تلوث البيئة. والمشكلة هـنا أن الإنسان يعالج الانحراف بانحراف آخر، والإسلام جاء بالتوازن الذي أسميناه الوسطية والاعتدال، وهو أمر مفقود اليوم.

                  هذا - في الحقيقة - الذي استطعنا أن ننقله إلى العلماء خلال أيام المؤتمر - على تباين تخصصاتهم؛ من اجتماعيين وتربويين وعلماء في الطاقة النووية وفي الطب والجيولوجيا - رؤية الإسلام الوسطية التي أشرتم إليها، وينتهي المؤتمر فعلا إلى الإقرار بأن الإسلام لديه الحل لأنه منهج وسط لا يميل إلى أي جانب من هـذه الجوانب المتطرفة، وأنه النظام الروحي الوحيد الذي يستطيع إيقاظ ضمير الإنسان ويجعل من نفسه على نفسه رقيبا. لذلك أقول: إن قضية إعادة صياغة العلوم من منظور إسلامي قضية أساسية وضرورة إنسانية، فقد مرت بنا فترة غفوة، تخلف فيها المسلمون علميا وتقنيا، وفي الفترة نفسها جاءت النهضة في العالم غير الإسلامي على أساس المفاصلة بين العلم والدين، وعندما استيقظ المسلمون ليلحقوا بالركب، أخذوا ما كتبه الغربيون بغثه وثمينه دون تمييز.

                  كان التمييز صعبا عليهم - في الحقيقة - لأنهم عاجزون أصلا عن الفهم، حيث إن موقع التخلف ينسحب على كل شيء، ولو لم يفتقدوا التمييز ما كانوا في حالة تخلف.

                  هذا صحيح، فقد كان العالم الإسلامي في ذلك الوقت مستعمرا من قبل البريطانيين أو الفرنسيين أو الإيطاليين استعمارا عسكريا واقتصاديا وفكريا وعلميا. وكانت المعاهد والمدارس في أيدي القوى المستعمرة، وكان الأوروبيون يكتبون [ ص: 76 ] الكتب العلمية مباشرة لهذه المدارس أو يترجمونها إلى العربية، وتأتي الخطورة من هـنا، فعندما كان العالم العربي يكتب العلوم كان يكتبها من منطلق إلحادي أو لا ديني صرف، من خلال الصورة التي انتهى إليها، ثم نقل ذلك إلى العالم الإسلامي، الأمر الذي أدى إلى موقف خطير، فالمسلمون عندما بدءوا بقراءة هـذه الكتابات العلمية، ورأوا فيها إلحادا، نفروا منها - من ذلك الأزهر مثلا، الذي لم يكن في وقت من الأوقات مدرسة للدراسات الإسلامية والعربية فقط بل أيضا مدرسة علمية متخصصة - حيث كان فيه جغرافيون ورياضيون وفلكيون متميزون، في سنواته الأولى - ثم تقوقع على الدراسات العربية والإسلامية فقط لأنه وجد أن سيل المعرفة الذي يأتي إلى العالم الإسلامي إلحادي صرف، فواجهه بالانغلاق، وكانت النتيجة، إما صد ذلك التيار الإلحادي صدا كاملا بإهماله وتركه، أو مجاراته وقبوله، ظنا أن هـذه هـي وسيلة الأخذ بالأسباب.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية