الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إن مات وترك ما فيه وفاء الكتابة ، وترك أم ولد وولدا منها أو من غيرها عتقت مع الولد فيه ; لأنه بالأداء يعتق فترتب أحكام الحرية ، وكذلك إن ترك معه في الكتابة أجنبي وترك مالا فيه وفاء بالكتابة . فإن كتابته تحل بموته ويتعجلها السيد من ماله ويعتق من معه ، وليس لمن معه أجنبيا أو ولدا أخذ المال ، وأداؤه على النجوم إن كان فيه وفاء الكتابة لما فيه من الغرر ، فإن لم يف بالكتابة فلولده والذين معه أخذه إن كانت لهم أمانة وقوة على السعي ، ويؤدون نجوما ، قال سليمان بن يسار : فإن لم يكن الولد مأمونا لم يدفع له مال ، قال ابن القاسم : ولا يدفع المال لغير الولد ، ويتعجله السيد ; لأن ولد المكاتب عضو منه بمنزلته بخلاف غيره ، والكتابة كالدين ، وصاحب الدين أولى [ ص: 311 ] بالتركة إذا تعجله السيد سعوا في البقية فإن أدوا عتقوا ، ويتبع السيد الأجنبي بحصة ما أدى عنه من مال الميت ، ويحاص به غرماءه بعد عتقه وليس كالمعتق على أن عليه مالا بعد العتق ، وقال ربيعة : لا يدفع المال لولد ولا غيره ، وإن كانوا ذوي قوة وأمانة ; لأنه ليس لهم أصله ، ولا يؤمن عليه التلف ويتعجله السيد ويحاصهم به من آخر كتابتهم ، وإن كانوا صغارا لا قوة فيهم على السعي فهم رقيق وذلك المال للسيد ، وإن ترك أم ولد ولا ولد معها ومالا يوفي الكتابة فهي والمال ملك للسيد ; لأنه مات رقيقا ، قال ربيعة : وكذلك إن ترك ولدا فمات الولد ، قال ابن القاسم : وإن ترك ولدا أحدث في كتابته ، ومالا يوفي بالكتابة ويفضل ، أخذ السيد الكتابة ، ويرث الفضل من معه في الكتابة على فرائض الله تعالى ; لأنهم ساووه في أحكامه بعقد الكتابة ، ولا يرثه ولده الأحرار الذين ليسوا معه في كتابته ، ولا زوجته وإن كوتبت معه ، ولا يكون للسيد ما فضل إلا أن يكون الولد ابنا أو بنتا ، فالباقي له دون أحرار ورثة المكاتب لحصول المخالفة في الرق والحرية عند الموت ، وإن لم يكن معه في الكتابة أحد أو ترك أجنبيا ووفى الكتابة تعجلها السيد ، والفضل له دون ورثة المكاتب الأحرار ، وإن كان مع الأجنبي ولد في الكتابة ، اتبعه الولد بما أدى عنه دون السيد وورث السيد بقية المال ، وإن ترك ابنتيه وابن ابن معهما في الكتابة ، والتارك فضلا عن كتابته فللابنتين من الفضل الثلاث ولابن الابن ما بقي ، وإنما يرث المكاتب من معه في الكتابة من القرابة : الولد ، وولد الولد ، والأبوان ، والجدود ، والإخوة دون أحرار ولده ، ولا يرثه غيرهم من عم وابن عم وغيرهم من العصبة ولا زوجة ، وإن كانوا معه في الكتابة ، وضابطهم : من أدى عنهم لم يرجع عليه إلا الزوجة فإنها لا ترثه ، ولا يرجع عليها من يرثها ولا السيد ، ويرجعون على كل من كان هو يرجع عليه إلا الزوجة ، وإن هلك أحد الأخوين في كتابته وترك فضلا فللأخ دون السيد ، ولا يرجع السيد على الأخ بما أدى عنه من مال أخيه لو [ ص: 312 ] ترك الميت ولدا فأدى الولد من ذلك المال جميع الكتابة لم يرجع عليه ، وإذا مات المكاتب بعد موت سيده ، وترك وفاء الكتابة ولم يدع ولدا فلورثة السيد ، يدخل فيه بناته وأمهاته وزوجاته وغيرهن لأنه موروث بالرق دون الولاء ، وإن هلك أحد الأخوين وترك أم ولد لا ولد معها فهو رقيق ، إلا أن يدع ولدا منها أو من غيرها كاتب عليهم أو حدثوا في الكتابة ، فلا ترق إلا أن يعجز الولد ، ولا تقوى هي على السعي عليهم أو يموت الولد قبل الأداء ، وإن كان معه في الكتابة ولد فمات ولده عن أم ولد لا ولد معها رقت للأب ، وإن كثر ما ترك . إلا أن يترك ولدا كما تقدم ، وإن كاتبه ثم كاتبت امرأته كتابة على حدة ، فحدث بينهما ولد فهو في كتابة الأم يعتق بعتقها لا بعتق الأب ونفقتهم عليها ، ووافقنا ( ح ) على أنه إذا مات وخلف وفاء ولم يمت على الرق ووارث ، ويقول : مات حرا مكاتبا ، نحن نقول مات مكاتبا ، وقال ( ش ) : مات عبدا ولا يورث .

                                                                                                                لنا : قوله تعالى : ( من بعد وصية ) فحكم تعالى ببقاء دين الميت بعد موته ، وأوجب قضاءه من ماله ، فالكتابة دين ، ويرث الفضل ورثته لا بأي المواريث ، ولأن المساواة إذا حصلت في الرق والحرية والدين وجب الإرث وهو هاهنا موجود ; لأنهم ساووه في عقد الحرية ، ويفارق العبد بأنه أحرز نفسه وماله فتقرر ملكه ، وله عقد حرية ولم يلحق بالحر لأنه قد يعجز فلا يرثه الحر ولا العبيد ، ولأنه عقد معاوضة فلا يبطل بالموت كالبيع ، ويفارق النكاح لأنه لا يصح إلا بشرط العوض ، والنكاح يصح تفويضا ، وكالعتق على مال لا يبطل بموت العبد ، ولأنه أحد المتعاقدين فلا يبطل العقد بموته كالسيد طردا للباب كالبيع ، ولا يشكل بموته مفلسا ; لأن المبطل العجز لا الموت ، احتجوا : بأن الموت يبطل الشرط ، كما لو جعل الشرط دخول الدار ، هذا عمدتهم ، ولأن الموت يبطل سبب الاستيلاد ، وهو أقوى لتعذر إبطاله ، فالكتابة أولى لأنها تبطل [ ص: 313 ] بالعجز ، ولأنه مات عندكم مكاتبا وأولادا عتقوا بالأداء ، فلا مساواة فلا إرث ، أو مات حرا فيرثه الأحرار كلهم ، أو تقولوا عتق بالأداء فيلزمكم عتق الموتى ، وهو خلاف الإجماع .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن عقد الكتابة ليس للولد الحادث في الكتابة ، ويعتق بعتق أبيه كاتب عليه أو حدث فيها ، فإذا مات الوالد بقي حق الولد ، كما لو قال له ولولده : إذا أديتم ألف درهم فأنتم أحرار فما أحد منهم ثم أدى الباقون الألف فإنهم يعتقون ، ولا يبطل حقهم بموت بعضهم .

                                                                                                                وعن الثاني : أن حكم أم الولد إذا ماتت قبل السيد كما كان ، ويعتق بموت سيده ، وكذلك ولد المدبر .

                                                                                                                وعن الثالث : أنه مات مكاتبا لا حرا ، ولا قنا ، فعدم خلوصه للحرية يمنع ورثته الأحرار ، وعدم خلوص الرق يمنع وراثة السيد ، فلم يبق إلا أولاده الذين معه في الكتابة فالمكاتب أصل في نفسه كأم الولد لا حرة فتجب ديتها ، ولا أمة فيجوز بيعها ، وتجوز إجارتها كالنكاح ، لا بيع ولا إجارة ، وكالنكاح الفاسد فيه شبه الصحيح في لحوق النسب وسقوط الحد ، وشبه الزنا في امتناع الطلاق والميراث ، وهذه قاعدة متى كان للفرع أصل واحد لحق به ، ومتى كان بين أصلين فأكثر يختلف العلماء بأيهما يلحق وأيهما أرجح ، ونظائره كثيرة في الشرع فالمكاتب كذلك فلا حجة فيه ، وهذه الطريقة ناظر بها القاضي إسماعيل محمد بن الحسن .

                                                                                                                [ ص: 314 ] فإن قالوا : لا يصح عقد الكتابة بعد الموت ، فلا يصح بقاؤها كالنكاح وغيره .

                                                                                                                قلنا : قد يخالف الابتداء البقاء كالعدة والإحرام ، لا تبقى المرأة معتدة بعد موتها ولا محرمة ولا معتكفة ، وتبقى زوجة وحرة ومؤمنة وابنة ، وغير ذلك من القرابات مع أنها أمور لا يصح ابتداؤها بعد الموت ، فالأوصاف ثلاثة أقسام : ما لا يثبت إلا بعد الموت نحو كونه موروثا ، ولا يثبت إلا قبل الموت ، كالعدة والإحرام ، وما يقبل الأمرين كالحرية والقرابات ، وإذا اختلفت الأحوال فليس قياسكم على أحدها بأولى من الآخر ، ويلزم ( ح ) في قوله : إذا خلف وفاء أنه مات حرا أن يكمل ديته ، ولما لم يقل إلا بالقيمة بطلت الحرية .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية