الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                السابع والعشرون . في المقدمات : إن قال : أنت سائبة ، قال ابن القاسم : إن أراد به العتق فهو حر ، وولاؤه لجميع المسلمين ، وهو مكروه ، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وهبته ، ولم يكرهه أصبغ ، كعتق عبده عن زيد ، ويعتق ، أراد [ ص: 134 ] الحرية أم لا ، لصراحته في العتق ، وقال عبد الملك : يحرم عتق السائبة لظاهر قوله تعالى : ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ) أي لم يشرع ، فإن فعل فالولاء له إن عرف ، فإن ما بقي منه إن كان له مال ، وفي الكتاب : إذا أعتق المليء شقصا له في عبد فليس لشريكه التمسك بنصيبه ، ولا عتقه إلى أجل ، إنما له أن يبتله أو يقوم على شريكه ، فإن أعتق حصته إلى أجل ، أو دبره ، أو كاتبه ، رد ذلك إلى التقويم ، إلا أن يبتله ، قال غيره : إن كان الأول مليا بقيمة نصف نصيب المعتق إلى أجل ، قوم ذلك عليه ، وبقي ربع العبد معتقا ، وقال غيره : إن كان الأول مليا وأعتق الثاني إلى أجل فقد ترك التقويم ، ويعجل عليه العتق الذي ألزم نفسه ، واستثنى من الرق ما ليس له ، وقال ( ش ) قولين : أحدهما : أن الموسر يلزمه أن يؤدي قيمة العبد ، فإذا أدى عتق فاللفظ وجب الأداء ، وبالأداء عتق . وهو ظاهر قول مالك ، والثاني : يعتق بالسراية ، وتكون القيمة في ذمة الشريك ، وقاله ابن حنبل ، وقال ( ح ) : يتخير شريك الموسرين ثلاث : بين أن يعتق نصيبه ، أو يقوم على شريكه الموسر ، أو يستسعى العبد في قيمته ، فإذا أداها عتق ، ويتخير مع العسر في العتق والاستسعاء ، وقال صاحباه : العتق يقع جزما وإن كان موسرا ، إذ القيمة والاستسعاء للعبد . لنا في بطلان الاستسعاء : ما تقدم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإلا فقد أعتق منه ما أعتق ، وما في الصحيح : ( أن رجلا أعتق ستة أعبد ، لا مال له غيرهم ، فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين وأرق أربعة ) فلم يلزمهم الاستسعاء و ( ح ) يعتق من كل واحد بعضه ، ويستسعيه [ ص: 135 ] في الباقي ، ولأنه لا يجزيه على الكتابة ، فنقيس عليه ، لأنها عتق بعوض ، ولأنه لو أوصى المريض بعتق عبده ولا مال له غيره ، عتق ثلثه واستسعي في الباقي ، فيؤدي إلى تقديم حق الموصى له على حق الوارث ، مع أن الوارث مقدم فيما عدا الثلث . احتجوا بما خرجه البخاري وغيره أن النبي - - - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أيما عبد كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه ، فإن كان موسرا قوم عليه ، وإلا استسعي العبد غير مشقوق عليه ) وجوابه : قال صاحب الاستذكار : روى الحديث جماعة ، والحفاظ منهم لم يذكروا السعاية ، فضعف نقلها ، قال صاحب القبس : وإلا فقد عتق منه ما عتق في الحديث الأول ، ( وإلا استسعي العبد ) من كلام الراوي فتيا من قبل بنفسه ، قاله علماء الحديث ، سلمناه ، لكن ليس في اللفظ ما يقضي الجبر على ذلك ، فيحمل على أنه برضا العبد والسيد على سبيل الندب ، لأنه توسل للعتق ، ويؤكده قوله : ( غير مشقوق عليه ) ، وهو يدل على الاختيار وعدم الجبر ، وإلا حصلت المشقة ، أو يحمل على إثبات السعي للسيد في يوم الرق ، ليلا يظن السيد أن استخدام العبد بعد ذلك يمتنع لمشاركة الحرية ، وقاسوه على الكتابة على القول بالجبر عليها ، والفرق : أن هاهنا حصلت جناية من المعتق ، فأصل التعلق به لجناية ، فقد وجد المزاحم فسقط الإجبار على العبد لتعين الغير ، بخلاف الكتابة ، ولنا على عدم العتق بالسراية حتى يقوم : ما في الحديث المتقدم : وكان له مال يبلغ ثمنه فهو عتيق ، والفاء للترتيب ، فدل على أن العتق إنما يكون بعد تحقق ذلك بالكشف والتقويم ، وفي الأحاديث : إذا كان العبد بين اثنين [ ص: 136 ] فأعتق أحدهما نصيبه ، فإن كان موسرا قوم عليه قيمة عدل ، ولا لبس ولا شطط ، ثم يعطى صاحبه ، ثم يعتق . وهو يدل أن العتق توقف على تسليم القيمة لأن ( ثم ) للتراخي ، ولأن التقويم يدل على أن المقوم مال لأحد . احتجوا بأن التقويم يعتمد الإتلاف ، فدل على أنه تلف بالعتق ، ولأنه يروى : ( من أعتق شركا له في عبد فهو حر له ) .

                                                                                                                والجواب عن الأول : قد يكون التقويم فيما هو في حكم التالف كما إذا غصب عبدا فأبق منه . فإنا نقومه عليه ، وهذا في حكم التالف بتفريق الخدمة ونقصان الثمن بقلة الرغبات فيه ، ولأنه لإزالة الضرر عن الشريك ، فلا يزول إلا بعد قبض المال كالشفعة ، ولأنه لو أعتق نصيب شريكه ابتداء لم يعتق منه شيء ، فدل على أن النصيبين كالعبدين ، ولو أعتق أحد العبدين لم يعتق الآخر . وعن الثاني : أنه يتعين أنه آئل إلى العتق كله بالتقويم جمعا بينه وبين ما ذكرناه .

                                                                                                                تفريع : في التلقين : لا يجوز تبعيض العتق ابتداء ، ومن بعض العتق باختيار أو لسببه لزمه تكميله ، كان باقي المعتق له أو لغيره ، ويريد بسببه : شراء حر ممن يعتق عليه أو يقبله في هبة ، أو صدقة ، أو وصية ، أو نكاح .

                                                                                                                وفي الكتاب : يقوم النصيب يوم القضاء ويعتق على المعسر غير حصته ، وإن كان مليا ببعضها قوم ذلك عليه ويباع عليه في شوار بيته ، والكسوة ذات البال ، دون ما لا بد منه ، وعشرة الأيام . فإن كان مليا وأعتق الآخر نصف نصيبه عتق باقي حصته عليه ، لأنه قد أتلف نصيبه بعتقه لبعضه ، ولا يقوم [ ص: 137 ] على الأول إذا قيم عليه ، والعبد غير تالف ، فلو مات قبل التقويم لم يلزمه شيء ، لأنه مات على ملك سيده ، وإن مات المعتق لنصف نصيبه قبل أن يعتق عليه ما بقي بقيمة على المعتق الأول : قال ابن يونس : إذا لم ينظر في أمره حتى أيس قوم عليه ، لأن العبرة بحال الحكم لا يوقعه الرفع إلى الحاكم ، وأجمع أصحابنا أنه بتقويم الإمام حر بغير إحداث حكم ، لأنه الوارد في الحديث ، وكذلك لو دبر فقوم عليه لشريكه ، وأنكر على عبد الملك : أنه لا يكون مدبرا إلا بالحكم ، وقالوا : إن أعتق بعض عبده لا يعتق إلا بالحكم ، لأن الأول وارد في لفظ الحديث قريب فيه العتق على التقويم ، ولتعين ضرر الشريك ، وها هنا لم يضر نفسه وفي العتق بالمسألة قولان ، وعتق القرابة بمجرد الملك ، قال سحنون : وإن يكن للمعتق مال ظاهر ، سئل عنه جيرانه ومن يعرفه ، فإن لم يعلموا له مالا أحلف ولا يسجن ، وإن كان للعبد يجبر بدفع قيمته بموضعه ، ولا يجلب إلى غيره ، وإن قال : هو سارق وشريكي يعلم ذلك ، وأقر به قوم سارقا ، أو أنكر ، فلا يمين له عليه ، ويقوم سليما ، إلا أن تقوم بينة أو شاهد ، قال أشهب : يحلف معه ، فإن نكل أحلف شريكه ، فإن كان الشاهد غير عدل لم يحلف معه ، وتوجهت اليمين على شريكه ، وقال محمد : غير العدل لا يوجب شيئا ، قال اللخمي : لو تراضى الشريك والعبد بترك التقويم لم يصح ، لحق الله تعالى في العتق ، وللملك في عتق المقوم هل بنفس المعتق الأول أو بعد الحكم ، قال : والأحسن أن لا يكون إلا بعد الحكم ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( قوم عليه وأعتق ) فهو أمر بإيقاع العتق . والأصل : بقاء الرق حتى يتيقن زواله ، فإن لم ينظر فيه حتى خرج أو قذف فهو على أحكام العبيد ، وقيل : إنه بنفس التقويم يعتق ، وهو وهم ، لأن التقويم يحصل حق الشريك ويبقى حق الله تعالى يفتقر إلى حكم [ ص: 138 ] تحققه ، وإذا قوم على الشريك صار له كله ، والمعروف من المذهب إذا كان كله لا يعتق إلا بعد الحكم ، وإذا اختار المتمسك أن يعتق ، ثم انتقل للتقويم ، لم يكن له ذلك إلا إذا رضي شريكه ، لأنه أسقط حقه عنه ، فإن اختار التقويم ، ثم انتقل للعتق ، قيل له : ليس لك ذلك لتعين الولاء لغيره ، وقال ابن حبيب : له ، لأنه أولى بالتقريب لملكه ، وقاله ابن القاسم ومحمد ، قال محمد : ويقوم على أنه لا عتق فيه ، لأنه كذلك عينه ويقوم لم يسو القيمة يوم الحكم على أن نصفه حر ، لأنه أذن في العيب ، ولا شيء له إن كان معسرا ، ولو تأخر الاستكمال حتى يغير سوقه . فلمن لم يعتق قيمة عيب العتق يوم أعتق ، وقيمة النصف معينا يوم الحكم ، فإن مات العبد قبل الاستكمال ، أو أراد الشريك العتق ، أو المعتق معسرا بيع بقيمة العيب في ذمته ، فإن رضي الشريك بالتقويم مع العسر ليكمل العتق : قال محمد : ذلك له : لأن تأخير أخذ القيمة بسبب الإعسار حق له ، وقيل : ولا يشغل ذمة شريكه بغير رضاه ، والحديث لم يرد فيه ، قال : وهو أحسن ، وإذا أعسر ، ثم أيسر أو قال : كنت معسرا أو علم أن الذي في يده فائدة ، لكان القول قوله في الاستكمال ، لأن هذه فائدة ، والحديث : ( من أعتق وله مال ) ، ولا يقوم عليه إذا شك هل كان له مال أم لا ؟ والقيمة : أصلها الحلول كسائر قيم المتلفات ، فإن تراضيا بالتأجيل امتنع ، لأنه ربا وفسخ دين في دين ، وإن تراضيا بالتأجيل مع العسر جاز ، لأنه بيع باختيار ، وفي الجواهر : يترك للمقوم عليه عيشة الأيام وكسوة ظهره ، كما في الديون ، وقال أشهب : لا يترك له إلا ما يواريه لصلاته ، وقال عبد الملك : يترك له ما لا يباع على المفلس ، وإن كان عليه دين بقدر ماله فهو معسر ، ويقوم كاملا لا عتق فيه ، وقيل : على أن نصفه حر ، وعلى الأول اتفاق الأصحاب ، ويقوم بصنعته وماله وما حدث له من ولد بعد العتق أو [ ص: 139 ] مال ، وتقوم الأمة بولدها ومالها ، ولو تقاوم الشريكان العبد والأمة فبلغاه أضعاف ثمنه ، فأعتقه أحدهما ، قال ابن القاسم : نزلت بالمدينة بين رجل وامرأته فاستحسن مالك أن ينادى عليه ، فإن زادت عليها ، وإلا لزمه الزوج ، فلو بقيت قبل التقويم قوم بعينه ، قال صاحب المنتقى : في تحليفه إذا لم يوجد له مال ، قولان : التحليف كالمفلس للتهمة ، وعدمه ، لأنها يمين لو نكل عنها لم يستحق بها شيء ، والأول عليه الجمهور ، فإن كان له مدبرون ، أو معتق إلى أجل ، فلا حكم لهم في القيمة ، وتقوم ديته على مال حاضر ، وأمد قريب ، ويتبع في ذمته دون أسير أو على غائب ، قاله عبد الملك ، وفي الموازية : شطر ديته ، ويمنع شريكه من البيع ، وشطر فيه ، وإن كان ماله يبلغ بعض الحصة فروى القاضي أبو محمد : يعتق ذلك فيبقى الباقي رقا لمالكه ، وقاله سحنون إلا في التافه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية