الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعة يوم يخرجها إليه ، فإن لم يسبلها على من بعدهم كانت محرمة أبدا ، فإذا انقرض المتصدق بها عليه كانت محرمة أبدا ورددناها على أقرب الناس بالذي تصدق بها يوم ترجع " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن الوقف ملحق بالهبات في أصله ، وبالوصايا في فرعه ، وليس كالهبات المحضة : لأنه قد يدخل فيها من ليس بموجود ، ولا كالوصايا : لأنه لا بد فيها من أصل موجود ، ثم اعلم أن صحة الوقف من يجوز وقفه ، وما يجوز وقفه معتبر بخمسة شروط : أحدها : أن يكون معروف السبيل ، ليعلم مصرفه وجهة استحقاقه ، فإن قال : وقفته على [ ص: 520 ] ما شاء زيد ، وهكذا لو قال : وقفته على ما شاء زيد ، كان باطلا ، وهكذا لو قال : وقفته فيما شاء الله ، كان باطلا : لأنه لا يعلم مشيئة الله تعالى فيه ، فلو قال : وقفته على من شئت ، أو فيما شئت ، فإن كان قد تعين له من شاء ، أو ما شاء عند وقفه جاز ، وأخذ بيانه ، وإن لم يتعين له لم يجز : لأنهم إذا تعينوا له عند مشيئته فالسبيل معروفة عند واقفه يؤخذ بيانها ، وإذا لم يتعينوا فهي مجهولة كورود ذلك إلى مشيئة غيره ، فهي مجهولة عنده ، وإن كانت معينة عند غيره ، فلو قال : وقفت هذه الدار ، ولم يزد على هذا ، ففي الوقف وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : باطل ، وهو الأقيس للجهل باستحقاق المصرف .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : جائز ، وفي مصرفه ثلاثة أوجه حكاهم ابن سريج .

                                                                                                                                            أحدهما : وهو الأصح أنه يصرف إلى الفقراء ، والمساكين : لأن مقصود الوقف القربى ، ومقصود القربى في الفقراء والمساكين ، فصار كما لو وصى بإخراج ثلث ماله ، ولم يذكر في أي الجهات صرف في الفقراء ، والمساكين ، ويكون أقرب الناس نسبا ودارا من ذوي الحاجة أحق بها .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يصرف في وجوه الخير والبر لعموم النفع بها .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب له أن الأصل وقف ، والمنفعة له ولورثته وورثة ورثته ما بقوا ، فإذا انقرضوا كانت في مصالح المسلمين فكأنه وقف الأصل واستبقى المنفعة لنفسه ولورثته . وإن قيل : فلو قال : وقفتها على من يولد لي وليس له ولد يجوز .

                                                                                                                                            قيل : لا ، والفرق بينهما أنه مع الإطلاق قد يحمل بالعرف على جهة موجودة ومع تعيين الحمل قد حمله على جهة غير موجودة .

                                                                                                                                            فلو قال : وقفتها على جميع المسلمين ، أو جميع الخلق ، أو على كل شيء فهو وقف باطل لعلتين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الوقف ما كان سبيلا مخصوص الجهات لتعرف ، وليس كذلك هذا .

                                                                                                                                            والعلة الثانية : أنه لا يملك استيفاء هذا الشرط ، ولو وقفها على الفقراء والمساكين جاز وإن لم يمكن وقفها إلى جميعهم ، لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الجهة مخصوصة .

                                                                                                                                            والثاني : أن عرف الشرع فيهم لا يوجب استيعاب جميعهم كالزكاوات ، ولو وقفها على قبيلة لا يمكن استيفاء جميعهم كوقفه إياها على ربيعة ، أو مضر ، أو على بني تميم ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الوقف باطل تعليلا بأن استيفاء جميعهم غير ممكن ، وليس في الشرع لهم عرف .

                                                                                                                                            [ ص: 521 ] والثاني : أن الوقف جائز تعليلا بأن الجهة مخصوصة معروفة ويدفع إلى من أمكن منهم كالفقراء والمساكين ، وهذا حكم الشرط الأول ، وما يتفرع عليه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية