الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - : " في السرقة حكمان : أحدهما : لله عز وجل ، والآخر للآدميين فإذا قطع لله تعالى أخذ منه ما سرق للآدميين فإن لم يؤخذ فقيمته ؛ لأني لم أجد أحدا ضمن مالا بعينه بغصب ، أو عدوان فيفوت إلا ضمن قيمته ، ولا أجد في ذلك موسرا مخالفا لمعسر وفي المغتصبة حكمان : أحدهما : لله ، والآخر للمغتصبة بالمسيس الذي العوض منه المهر فأثبت ذلك والحد على المغتصب ، كما أثبت الحد والغرم على السارق " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . إذا سرق سارق نصابا محرزا فإن كان المسروق باقيا استرد ، وقطع إجماعا ، وإن كان تالفا فقد اختلف الفقهاء على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - . أن يغرم ويقطع موسرا كان أو معسرا .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : وهو مذهب أبي حنيفة أنه يقطع ، ولا يغرم موسرا كان أو معسرا ، إلا أن يعفو المسروق منه عن القطع فيغرم ، ولا يجمع بين القطع والغرم .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب مالك ، أنه إن كان موسرا قطع وأغرم وإن كان معسرا قطع ، ولم يغرم واستدلوا على سقوط الغرم بقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا [ المائدة : 31 ] . فجعل جزاء كسبهما القطع دون الغرم . وبرواية المفضل بن فضالة عن يونس بن زيد وبرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قطعت يد السارق فلا غرم عليه ولأن أخذ القيمة من السارق يجعلها ملكا له ، والإنسان لا يقطع في ملكه . ولأن القطع ، والغرم عقوبتان ، ولا تجتمع عقوبتان حدا في ذنب واحد ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - على اليد ما أخذت حتى تؤديه ، فجعل الأداء غاية الحكم ولأنه متعد بالمنع إلى وقت التلف مع اعتقاد وجوب الرد فوجب أن يلزمه الغرم كالغاصب . وقولنا مع اعتقاد وجوب الرد احترازا من الحربي ، ولا يدخل عليه العبد إذا سرق من سيده ؛ لأن الغرم وجب بالتلف ثم [ ص: 166 ] سقط بالملك ولأنه مال وجب رد عينه بحكم السرقة فوجب أن يلزم رد بدله عند التلف قياسا على ما لم يجب فيه القطع ، ولأنه مال مأخوذ على وجه العدوان فوجب أن يستوي حكم قليله وكثيره في الغرم كالغصب ولأن الغرم حق للمسروق منه ثبت في قليل الملك فوجب أن يثبت في كثيره قياسا على رد العين ولأن ما ضمن نقصانه ضمن بالتلف جميعه كالمبيع في يد البائع ، ولأن المال الكثير يغلظ حكمه بإيجاب القطع فلم يجب أن يستفاد من تغليظ الحكم التخفيف بإسقاط الغرم .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية ، فهو أن القطع جزاء السرقة ، والغرم جزاء التلف . ألا تراه لو أتلف المسروق في حرزه لزمه الغرم دون القطع ولو كان باقيا بعد إخراجه من حرزه لزمه القطع ، ولا غرم .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الخبر مع ضعفه ووهاء إرساله وإسناده فهو محمول على إسقاط غرم العقوبة ؛ لأن العقوبة كانت في صدر الإسلام بالغرامة . فكان يغرم السارق مثلي ما سرق ليكون أحدهما حدا ، والآخر غرما فصار القطع حين ثبت مسقطا لغرم الحد .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم إنه يصير بالغرم مالكا فهو أن ما تلف لا يصح أن يستحدث عليه ملك وإنما يلزمه الغرم استهلاكا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم إن القطع ، والغرم عقوبتان فلم يجتمعا فهو أنهما وجبا بسببين مختلفين فجاز أن يجتمعا كما يجتمع في العبد القيمة والحد ، أو في القتل الكفارة والدية ، ولو كان لتنافي اجتماعهما أن يسقط أحدهما بالآخر لكان سقوط القطع بإيجاب الغرم أولى من سقوط الغرم بإيجاب القطع ؛ لأن القطع حق الله تعالى يسقط بالشبهة . والغرم حق الآدمي لا يسقط بالشبهة وهكذا القول في الحد والمهر ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية