الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الضرب الثالث : وهو ما يختص بالارتفاق فيه بأقنية الشوارع والطرقات أن يجلس فيها السوقة بأمتعتهم ليبيعوا ويشتروا ، فهذا مباح لما قدمنا من الدليل عليه ، وللإمام أن ينظر فيه ، واختلف أصحابنا في حكم نظر الإمام فيه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن نظره فيه مقصور على كفهم عن التعدي ومنعهم من الإضرار ، وليس له أن يمنع جالسا ولا أن يقدم أحدا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن نظره نظر مجتهد فيما يراه صلاحا من إجلاس من يجلسه ، ومنع من يمنعه ، وتقديم من يقدره ، كما يجتهد في أموال بيت المال ، فإذا أخذ الباعة مقاعدهم في أقنية الأسواق والطرقات ، روعي في جلوسهم ألا يضروا بمار ، ولا يضيقوا على سائل ، وليس للإمام أن يأخذ منهم أجرة مقاعدهم ، فلو جلس رجل بمتاعه في مكان فجاء غيره ليقيمه منه ويجلس مكانه لم يجز ما كان الأول جالسا بمتاعه ، فلو قام ومتاعه في المكان فهو على حقه فيه ومنع غيره منه ، فإذا قاموا من مقاعدهم بأمتعتهم عند دخول الليل ثم غدوا إليها من الغد كان كل من سبق إلى مكان أحق به ، ولا يستحق العود إلى المكان الذي كان فيه وعرف به ، وقال مالك : إذا عرف أحدهم بمكانه طال جلوسه فيه فهو أحق به من غيره لما فيه من المصلحة بقطع التنازع ووقوع الاختلاف وهذا عنه صحيح ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - منى مناخ من سبق ولأنه لو جعل أحق به لصار في حكم ملكه ولحماه عن غيره فلو تنازع رجلان في مقعد ولم يمكنهما الجلوس بناء على نظر الإمام فيه .

                                                                                                                                            أحدهما : يقرع بينهما فأيهما قرع كان به أحق ، وهذا على الوجه الذي يجعل نظر الإمام مقصورا على منع الضرر وقطع التنازع .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الإمام يجتهد رأيه في إجلاس من يرى منهما ، وهذا على الوجه الذي يجعل نظر الإمام نظر اجتهاد ومصلحة ، فلو أقطع الإمام رجلا موضعا من مقاعد الأسواق ليبيع فيه متاعه ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أحق بالمكان ما لم يسبق إليه ، فإن سبق إليه كان السابق أحق به ، وهذا إذا قيل : إن نظره مقصور على منع الضرر .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه أحق من السابق بذلك المكان ، وهذا إذا قيل : إن نظره اجتهاد في الأصلح ، فلو أن رجلا ألف مقعدا في فناء طريق حتى تقادم عهده فيه وعرف به ففيه لأصحابنا وجهان : [ ص: 496 ] أحدهما : يقر في مكانه ما لم يسبقه إليه غيره .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يقام عنه ويمنع منه لئلا يصير زريعة إلى تملكه وادعائه ، فلو أراد رجل أن يبني في مقعد من فناء السوق بناء منع : لأن إحداث الأبنية يستحق في الأملاك ، وأما إذا حلق الفقهاء في المساجد ، والجوامع حلقا منع الناس من استطراقها والاجتياز فيها ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا حمى إلا في ثلاث : ثلة البئر ، وطول الفرس ، وحلقة القوم فلو عرف فقيه بالجلوس مع أصحابه في موضع من الجامع لم يكن له منع من سبق إليه وكان السابق أحق به ، وقال مالك : قد صار من عرف بذلك الموضع من الفقهاء والقراء أحق به ، وله منع من سابق إليه وهذا غير صحيح لقوله تعالى : سواء العاكف فيه والبادي ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية