الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " فإن أقر جميع الورثة ثبت نسبه وورث وورث واحتج بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابن وليدة زمعة وقوله هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد ذكرنا أن إقرار الوارثين بمدعي البنوة يوجب ثبوت نسبه وهكذا لو كانوا جماعة وأقروا ، أو كان واحدا وأقر ؛ لأن المراعى إقرار من يحوز الميراث .

                                                                                                                                            وقال مالك : لا يثبت النسب بإقرار الورثة وإنما يستحق به الميراث .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إن كان الوارث واحدا لم يثبت بإقراره النسب ، وإن كانوا عددا أقلهم اثنان ثبت النسب بإقرارهم لا من طريق الشهادة ؛ لأنه لا تعتبر فيها العدالة .

                                                                                                                                            واستدل من منع لحوق النسب بإقرار الورثة بما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا مساعاة في الإسلام يعني السعي إلى ادعاء النسب .

                                                                                                                                            وعن عمر - رضي الله عنه - أنه كان لا يورث الحميل وهو الذي يحمل نسبه على غير مقر به ، والميت غير مقر وإن أقر وارثه .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن ثبوت النسب في مقابلة نفيه فلما لم ينتف النسب بنفي الوارث ولعانه لم ينتف بتصديقه وإقراره ويتحرر منه قياسان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أحد حالي النسب فلم يملكه الوارث كالنفي .

                                                                                                                                            والثاني : أن من لم يملك نفي النسب لم يملك إثباته كالأجانب .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن الولاء لحمة كلحمة النسب فلما لم يكن للورثة إلحاق ولاء بالميت بعتقهم لم يكن لهم أن يلحقوا به نسبا بإقرارهم .

                                                                                                                                            [ ص: 93 ] ويتحرر منه قياسان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أحد اللحمتين فلم يكن للورثة إثباته كالولاء .

                                                                                                                                            والثاني : أن من لم يكن له إثبات الولاء لم يكن له إثبات النسب كالأوصياء .

                                                                                                                                            والدليل على ما قلناه من ثبوت النسب بإقرارهم من خمسة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : ما رواه سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابن أمة زمعة ، فقال سعد : عهد إلي أخي في ابن وليدة زمعة أن أقبضه فإنه ابنه ، وقال عبد بن زمعة : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر فألحق النبي - صلى الله عليه وسلم - الولد بعبد بن زمعة باعتراف أبيه وجعله أخاه . فاعترضوا على هذا الحديث من أربعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن قالوا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعله عبدا لعبد ، ولم يجعله أخاه ، وروي أنه قال : هو لك عبد . فعن هذا جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن مسددا روى عن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هو أخوك يا عبد .

                                                                                                                                            والثاني : أن عبد بن زمعة قد أقر بحريته وولادته حرا على فراش أبيه فلم يجز بعد اعترافه بحريته أن يحكم له برقه .

                                                                                                                                            وما رووه من قوله : هو لك عبد فإنما أشار إليه بالقول اختصارا يحذف النداء كقوله تعالى : يوسف أعرض عن هذا [ يوسف : 29 ] . والاعتراض الثاني عليه :

                                                                                                                                            أن قالوا إنما ألحقه بالفراش لا بالإقرار وبين ذلك بقوله الولد للفراش ، والجواب عنه : أنه قد أثبت الفراش بإقراره وإقراره بالفراش إقرار بالنسب لثبوت النسب بثبوت الفراش فلم يكن فرق بين الإقرار بالفراش الموجب لثبوت النسب وبين الإقرار بالنسب الدال على ثبوت الفراش .

                                                                                                                                            والاعتراض الثالث عليه :

                                                                                                                                            أن قالوا : لا دليل لكم فيه ؛ لأن عبدا هو أحد الوارثين وسودة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أخته ، ولم تكن منها دعوى له ، ولا إقرار به ، ولا دعوى له . وإقرار أحد الورثة لا يوجب بالإجماع ثبوت النسب . وعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن عبدا هو وارث أبيه وحده ؛ لأن سودة كانت قد أسلمت قبل موت أبيها وكان عبد على كفره فكان هو الوارث لأبيه الكافر دون أخته المسلمة ، ألا ترى إلى ما روي عنه أنه قال : أسلمت أختي سودة فحملتها وليتني أسلمت يوم أسلمت .

                                                                                                                                            والثاني : أن سودة قد كانت معترفة به واستنابت أخاها في الدعوى ؛ لأن النساء من [ ص: 94 ] عادتهن الاستنابة ، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالاحتجاب منه فلولا أنها كانت معترفة به كانت مقيمة على الاحتجاب الأول .

                                                                                                                                            والاعتراض الرابع عليه : أن قالوا : أمره - صلى الله عليه وسلم - لسودة بالاحتجاب منه دليل على أنها ليست أختا له . وعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : لقوة الشبه الذي رأى فيه من عتبة أمرها بالاحتجاب إما كراهة أن يكون في نفسها نزاع من قضائه ، وإما استظهار لما تتخوفه باطنا من فساد أصابه .

                                                                                                                                            والثاني : أن للزوج منع زوجته من الظهور لأخيها وأهلها فلم يكن في المنع دليل على اختلاف النسب .

                                                                                                                                            والدليل الثاني من المسألة : ما روى سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه فقد لحق بمن استلحقه . وهذا نص عام في موضع الخلاف .

                                                                                                                                            والدليل الثالث : أن الورثة يخلفون مورثهم في حقوقه إثباتا كالحجج ، والبينات وقبضا كالدين ، والقصاص ، والنسب حق له إثباته حيا فكان للورثة إثباته ميتا . ويتحرر منه قياسان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ما ملك المورث إثباته من حقوقه ملك الورثة إثباته بعد موته كالدين ، والقصاص .

                                                                                                                                            والثاني : أن من ملك إثبات الحقوق ملك إثبات الأنساب كالموروث .

                                                                                                                                            والدليل الرابع : أن الإقرار بالنسب يتعلق به حكمان : ثبوته وإرثه .

                                                                                                                                            فلما استحق الإرث بإقرارهم ثبت النسب بإقرارهم ويتحرر منه قياسان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن من ثبت الميراث بإقراره ثبت النسب بإقراره كالموروث .

                                                                                                                                            والثاني : أن ما لزم من حقوق النسب بإقرار الموروث لزم بإقرار الوارث كالميراث .

                                                                                                                                            والدليل الخامس : أن إقرار الورثة بالحق أقوى ثبوتا من الشهادة بالحق فلما ثبت النسب بالشهادة فأولى أن يثبت بإقرار الورثة ، ويتحرر من اعتلاله قياسان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ما صح ثبوته بالشهادة فأولى أن يصح ثبوته بإقرار الورثة كسائر الحقوق .

                                                                                                                                            والثاني : أن ما صح أن يثبت بالحقوق صح أن يثبت به الأنساب كالشهادة ، والله أعلم .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - ولا مساعاة في الإسلام فوارد باستلحاق الأنساب بالزنى ؛ لأن تمام الخبر دال عليه وهو قوله لا مساعاة في الإسلام ومن ساعى في الجاهلية فقد لحقه بعصبته ومن ادعى ولدا من غير رشدة فلا يرث ، ولا يورث .

                                                                                                                                            وأما الجواب عما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان لا يورث الحميل فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه وارد فيمن حمل نسبه على غيره مع إنكار ورثته .

                                                                                                                                            [ ص: 95 ] والثاني : أنه وارد في المسبي من دار الشرك إذا أقر بنسب ليرتفع إرث الولاء به .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بنفي النسب فهذا باطل بالابن لو أقر لحق ولو أراد نفي أب لم يجز فكذا الأخ لو أقر بأخ جاز ولو نفاه لم يجز . وأجاب أبو علي الطبري عن ذلك في إفصاحه أن قال : هما سواء ؛ لأن النسب لا يثبت إلا باجتماعهم ودخول المقر به في جملتهم ، فكذلك لا ينتفي إلا باجتماعهم ودخول المنفي في جملتهم فيقول إذا نفوه عن أبيهم : لست بابن أبيكم ، تصديقا لهم فينتفي . واختلف أصحابنا فيما أجاب به أبو علي هل يصح في الحكم أو لا ؛ فكان أبو حامد الإسفراييني يمنع من صحته فيقول : إن من لحق نسب من لم ينتف عنه باجتماعه مع الورثة على نفيه . وقال غيره : هو في الحكم صحيح ؛ لأنه لما ثبت النسب باتفاق الفريقين انتفى باتفاق الفريقين .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بالولاء فهو أنهما سواء ؛ لأنهم أقروا بنسب متقدم ولو استحدثوه لم يجز وبطل إلحاقهم بولاء مستحدث ولو أقروا بولاء متقدم جاز ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية