فصل : وأما السقي منه فإن
nindex.php?page=treesubj&link=28305الماء المباح على ثلاثة أضرب :
الضرب الأول : هو ماء نهر عظيم مثل
دجلة ،
والفرات وغيرهما ، والناس في السقي منه شرع سواء ، ولا يحتاج فيه إلى ترتيب وتقديم وتأخير لكثرته واتساعه .
والثاني : ماء مباح في نهر صغير يأخذ من النهر الكبير ، ولا يسع جميع الأراضي إذا سقيت في وقت واحد ، ويقع في التقديم والتأخير نزاع ، فهذا يقدم فيه الأقرب فالأقرب إلى أول النهر الصغير ، والأصل فيه ما روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=923470أن رجلا خاصم الزبير في سراح الحرة التي يسقون بها ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر عليه ، فأبى عليه الزبير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري ، وقال : يا رسول الله ، إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر قال الزبير : فوالله ، إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك : nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=65فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ النساء : 65 ] الآية فدل هذا على أن الأقرب أولى ، فإذا استكفى أرسله إلى جاره إلى من يليه ، وروي أيضا
nindex.php?page=hadith&LINKID=923471أن رجلا من قريش كان له سهم في بني قريظة فخاصم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرور السبل الذي يقتسمون ماءه ، فقضى بينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الماء إلى الكعبين ثم يحبسه الأعلى عن الأسفل لكي يرسله إليه ، وأيضا فإن الأقرب إلى فرهة النهر بمنزلة السابق إلى المشرعة ، فوجب أن يكون أولى من الذي هو أبعد منه .
وأما تأويل قصة البئر فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أولا بأن لا يستوفي جميع حقه ، ويرسل
[ ص: 510 ] الماء إلى جاره ، فلما أساء جاره الأدب أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستوفي في حقه فقال :
احبس الماء حتى يبلغ الجدر ( وهو الحائط ) .
فإن قيل : ففي الحديث الآخر أنه علق الحق بأن يبلغ الماء إلى الكعبين ، وهذا مخالف لذلك .
قلنا : ليس فيهما خلاف : لأن الماء إذا بلغ الكعبين وكانت الأرض مستوية رجع الماء إلى الجدار .
إذا تقرر هذا ، فإن الأقرب إلى الفرهة يسقي ويحبس الماء عمن دونه ، فإذا بلغ الماء الكعبين أرسله إلى جاره ، وهكذا الأقرب فالأقرب يفعل كلما حبس الماء وبلغ في أرضه إلى الكعبين أرسله إلى من يليه حتى تشرب الأراضي كلها ، فإن كان زرع الأسفل يهلك إلى أن ينتهي الماء إليه لم يجب على من فوقه إرساله إليه ، فإذا أحيا على هذا النهر الصغير رجل أرضا مواتا هي أقرب إلى فرهة النهر من أراضيهم ، فإنهم أحق بمائه ، فإذا فضل عنهم شيء سقى المحيي منه ، ولا يقول : إن هذا الماء ملك لهم كما إذا حازوه ملكوه ، وإنما هو من مرافق ملكهم فكانوا أحق به مع حاجتهم إليه ، فما فضل منهم كان لمن أحيا على ذلك الماء مواتا ، وأما الذي في نهر مملوك فهو أن يحفروا في الموات نهرا صغيرا ليحيوا على مائه أرضا ، فإذا بدوا بالحفر فقد تحجروا إلى أن يصل الحفر بالنهر الكبير الذي يأخذون الماء منه ، فإذا وصلوا إليه ملكوه كما إذا حفروا بئرا فوصلوا إلى الماء ملكوه ، وإذا حفروا معدنا من المعادن الباطنة ، وقلنا : يملك في أحد القولين ، فإذا وصلوا إلى النيل ملكوه .
إذا ثبت هذا ، فإنهم يملكونه على قدر نفقاتهم عليه ، فإن أنفقوا على السواء كان النهر بينهم بالتسوية ، وإن تفاضلوا كان ملكهم على قدر ما أنفقوا .
فإذا تقرر هذا ، فإن الماء إذا جرى فيه لم يملكوه كما إذا جرى الفيض إلى ملك رجل واجتمع لم يملكه ، ولكن يكون أهل النهر أولى به : لأن يدهم عليه وليس لأحد أن يزاحمهم فيه : لأن النهر ملك لهم ولكل واحد منهم أن ينتفع به على قدر الملك : لأن الانتفاع به لأجل الملك ، فإن كان الماء كبيرا يسعهم أن يسقوا من غير قسمة سقوا منه ، وإن لم يسعهم فإن تهابوا وتراضوا على ذلك جاز لهم ما تراضوا به ، فإن لم يفعلوا ذلك واختلفوا نصب الحاكم في موضع القسمة خشبة مستوية الظهر محفرة بقدر حقوقهم ، فإن كان لقوم مائة جريب ولآخر عشرة أجربة كانت الحفر إحدى عشرة حفرة متساوية فيكون حفرة منها لساقية من له عشرة أجربة ، والبواقي لأصحاب المائة جريب ، وذلك قسمة الماء العادلة . والله الموفق للصواب .
فَصْلٌ : وَأَمَّا السَّقْيُ مِنْهُ فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28305الْمَاءَ الْمُبَاحَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ :
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : هُوَ مَاءُ نَهْرٍ عَظِيمٍ مِثْلِ
دِجْلَةَ ،
وَالْفُرَاتِ وَغَيْرِهِمَا ، وَالنَّاسُ فِي السَّقْيِ مِنْهُ شَرْعٌ سَوَاءٌ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ لِكَثْرَتِهِ وَاتِّسَاعِهِ .
وَالثَّانِي : مَاءٌ مُبَاحٌ فِي نَهْرٍ صَغِيرٍ يَأْخُذُ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ ، وَلَا يَسْعُ جَمِيعَ الْأَرَاضِي إِذَا سُقِيَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَيَقَعُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نِزَاعٌ ، فَهَذَا يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَى أَوَّلِ النَّهْرِ الصَّغِيرِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=923470أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي سَرَاحِ الْحُرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : سَرَحُ الْمَاءِ يَمُرُّ عَلَيْهِ ، فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْجِدْرِ قَالَ الزُّبَيْرُ : فَوَاللَّهِ ، إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ : nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=65فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [ النِّسَاءِ : 65 ] الْآيَةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى ، فَإِذَا اسْتَكْفَى أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ إِلَى مَنْ يَلِيهِ ، وَرُوِيَ أَيْضًا
nindex.php?page=hadith&LINKID=923471أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَاصَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُرُورِ السُّبُلِ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَحْبِسُهُ الْأَعْلَى عَنِ الْأَسْفَلِ لِكِي يُرْسِلَهُ إِلَيْهِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ بِمَنْزِلَةِ السَّابِقِ إِلَى الْمَشْرَعَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى مِنَ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ .
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قِصَّةِ الْبِئْرِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَهُ أَوَّلًا بِأَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حَقِّهِ ، وَيُرْسِلَ
[ ص: 510 ] الْمَاءَ إِلَى جَارِهِ ، فَلَمَّا أَسَاءَ جَارُهُ الْأَدَبَ أَمْرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّهِ فَقَالَ :
احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجِدْرَ ( وَهُوَ الْحَائِطُ ) .
فَإِنْ قِيلَ : فَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْحَقَّ بِأَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِذَلِكَ .
قُلْنَا : لَيْسَ فِيهِمَا خِلَافٌ : لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ الْكَعْبَيْنِ وَكَانَتِ الْأَرْضُ مُسْتَوِيَةً رَجَعَ الْمَاءُ إِلَى الْجِدَارِ .
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى الْفُرْهَةِ يَسْقِي وَيَحْبِسُ الْمَاءَ عَمَّنْ دُونَهُ ، فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ ، وَهَكَذَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ يَفْعَلُ كُلَّمَا حَبَسَ الْمَاءَ وَبَلَغَ فِي أَرْضِهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ حَتَّى تَشْرَبَ الْأَرَاضِي كُلُّهَا ، فَإِنْ كَانَ زَرْعُ الْأَسْفَلِ يَهْلَكُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْمَاءُ إِلَيْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِ ، فَإِذَا أَحْيَا عَلَى هَذَا النَّهْرِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ أَرْضًا مَوَاتًا هِيَ أَقْرَبُ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ مَنْ أَرَاضِيهِمْ ، فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ بِمَائِهِ ، فَإِذَا فَضَلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ سَقَى الْمُحْيِي مِنْهُ ، وَلَا يَقُولُ : إِنَّ هَذَا الْمَاءَ مِلْكٌ لَهُمْ كَمَا إِذَا حَازُوهُ مَلَكُوهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَرَافِقِ مِلْكِهِمْ فَكَانُوا أَحَقَّ بِهِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ ، فَمَا فَضَلَ مِنْهُمْ كَانَ لِمَنْ أَحْيَا عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ مَوَاتًا ، وَأَمَّا الَّذِي فِي نَهْرٍ مَمْلُوكٍ فَهُوَ أَنْ يَحْفِرُوا فِي الْمَوَاتِ نَهْرًا صَغِيرًا لِيُحْيُوا عَلَى مَائِهِ أَرْضًا ، فَإِذَا بَدَوْا بِالْحَفْرِ فَقَدْ تَحَجَّرُوا إِلَى أَنْ يَصِلَ الْحَفْرُ بِالنَّهْرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَأْخُذُونَ الْمَاءَ مِنْهُ ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مَلَكُوهُ كَمَا إِذَا حَفَرُوا بِئْرًا فَوَصَلُوا إِلَى الْمَاءِ مَلَكُوهُ ، وَإِذَا حَفَرُوا مَعْدِنًا مِنَ الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ ، وَقُلْنَا : يَمْلِكُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى النِّيلِ مَلَكُوهُ .
إِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ عَلَى قَدْرِ نَفَقَاتِهِمْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَنْفَقُوا عَلَى السَّوَاءِ كَانَ النَّهْرُ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا كَانَ مِلْكُهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا أَنْفَقُوا .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَإِنَّ الْمَاءَ إِذَا جَرَى فِيهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ كَمَا إِذَا جَرَى الْفَيْضُ إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ وَاجْتَمَعَ لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَلَكِنْ يَكُونُ أَهْلُ النَّهْرِ أَوْلَى بِهِ : لِأَنَّ يَدَهُمْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ فِيهِ : لِأَنَّ النَّهْرَ مِلْكٌ لَهُمْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ : لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لِأَجْلِ الْمِلْكِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَبِيرًا يَسَعُهُمْ أَنْ يَسْقُوا مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ سَقَوْا مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسَعْهُمْ فَإِنْ تَهَابَوْا وَتَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُمْ مَا تَرَاضَوْا بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا نَصَبَ الْحَاكِمُ فِي مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ خَشَبَةً مُسْتَوِيَةَ الظَّهْرِ مُحْفَرَةً بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ لِقَوْمٍ مِائَةُ جَرِيبٍ وَلِآخِرَ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ كَانَتِ الْحُفَرُ إِحْدَى عَشَرَةَ حُفْرَةً مُتَسَاوِيَةً فَيَكُونُ حُفْرَةً مِنْهَا لِسَاقِيَةِ مَنْ لَهُ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ ، وَالْبَوَاقِي لِأَصْحَابِ الْمِائَةِ جَرِيبٍ ، وَذَلِكَ قِسْمَةُ الْمَاءِ الْعَادِلَةُ . وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .