مسألة : ولذلك حتى يكون أحق بها من مالكها ويملك بها صاحبها العوض فهي منفعة معقولة من عين معلومة فهي كالعين المبيعة ولو كان حكمها بخلاف العين كانت في حكم الدين ، ولم يجز أن يكتري بدين ؛ لأنه حينئذ يكون دينا بدين ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدين بالدين ( قال ) وإذا دفع ما أكرى وجب له جميع الكراء كما إذا دفع جميع ما باع وجب له جميع الثمن إلا أن يشترط أجلا " . يملك المستأجر المنفعة التي في العبد ، والدار ، والدابة إلى المدة التي اشترطها
قال الماوردي : ويملك بها صاحبها العوض فهي منفعة معقولة من عين معروفة فهي كالعين المبيعة ولو كان حكمها خلاف حكم العين لكانت في حكم الدين ، ولم يجز أن يكتري بدين ؛ لأنه حينئذ يكون دينا بدين ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدين بالدين ، فإذا دفع ما أكرى وجب له جميع الكراء كما إذا دفع ما باع وجب له جميع الثمن إلا أن يشترط أجلا وهذا صحيح وجملة القول في عقد الإجارة أنه يتضمن تمليك منافع في مقابلة أجرة ، فأما المنافع فلا خلاف أنها تملك بالعقد ويستقر الملك بالقبض وأما : الأجرة فلها ثلاثة أحوال
أحدها : أن يشترطا حلولها فتكون حالة اتفاقا .
والثاني : أن يشترطا تأجيلها ، أو تنجيمها فتكون مؤجلة ، أو منجمة إجماعا .
والثالث : أن يطلقاها فلا يشترطا فيها حلولا ، ولا تأجيلا فقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة مذاهب : فمذهب الشافعي فيها أن الأجرة تكون حالة تملك بالعقد وتستحق بالتمكين .
[ ص: 396 ] وقال أبو حنيفة : لا تعجل الأجرة بل تكون في مقابلة المنفعة فكلما مضى من المنفعة جزء ملك ما في مقابلته من الأجرة لكن لما شق أن يستوفي ذلك على يسير الأجزاء استحق أجرة يوم بيوم . وقال مالك : لا يستحق الأجرة إلا بمضي جميع المدة .
واستدلا على أن بقوله تعالى : الأجرة لا تتعجل فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن [ الطلاق : 6 ] ، فاقتضى أن يكون باستكمال الرضاع تستحق الأجرة . وبما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فكان ذلك منه حثا على تعجيلها في أول زمان استحقاقها وذلك بعد العمل الذي تعرف به . أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه
ولأن أصول العقود موضوعة على تساوي المتعاقدين فيما يملكانه بالعقد ويكون ملك العوض تاليا لملك المعوض كالبيع إذا ملك على البائع المبيع ملك به الثمن وإذا سلم المبيع استحق قبض الثمن فلما كان قبض المنافع مؤجلا وجب أن يكون قبض الأجرة مؤجلا وتحريره قياسا أنه عقد معاوضة فوجب أن يكون استحقاق العوض بعد إقباض المعوض كالبيع ولأن ما استحق من الأعواض على المنافع يلزم أداؤه بعد تسليم المنافع كالجعالة والقراض ولأن ملك المؤجر للأجرة يمنع من استحقاقها عليه بالعقد ، وقد ثبت أن استرجع من المؤجر ما قبضه من الأجرة فدل على أنه لم يكن مالكا للأجرة . ودليلنا هو أن ما لزم من عقود المنافع استحق العوض فيه حالا كالنكاح ولأن كل عوض تعجل بالشرط فإطلاقه يوجب حلوله كالثمن ولأن الأصول موضوعة على أن تسليم المعوض يوجب تسليم العوض ليستوي حكم المتعاقدين فيما يملكانه من عوض ومعوض فلا يكون حظ أحدهما فيه أقوى من حظ الآخر كالبيع إذا سلم المبيع فيه وجب تسليم الثمن . وكالنكاح إذا حصل التمكين وجب تسليم الصداق كذلك الدار المؤاجرة لو انهدمت قبل تقضي المدة ، والمنافع هاهنا بالتمكين مقبوضة حكما وإن لم يكن القبض مستقرا لأمور أربعة : الإجارة إذا حصل تسليم المنفعة وجب تسليم الأجرة
أحدها : ما ذكره الشافعي أنها لو كانت مؤجلة وبالتمكين غير مقبوضة لما جاز ؛ لأنه يصير دينا بدين ، وقد ورد النهي عنه وفي إجماعهم على جواز تأجيلها دليل على حصول قبضها . تأجيل الأجرة
والثاني : أنها لو لم تكن مقبوضة لما جاز لمستأجر الدار أن يؤجرها ؛ لأن بيع ما لم يقبض باطل وفي إجماعهم على جواز إجارتها دليل على حصول قبضها .
والثالث : أن الزوجة لا يلزمها التمكين من نفسها إلا بعد قبض صداقها ولو كان صداقها سكنى دار تسلمتها لزمها تسليم نفسها فلولا حصول قبضها لصداقها ما ألزمت تسليم نفسها .
والرابع : أن الأجرة لو لم تملك بتسليم الدار ، والتمكين من السكنى لما جازت المضاربة عليها وأن يأخذ عن الذهب ورقا وعن الورق ذهبا كما لا يجوز مثل ذلك في الديون [ ص: 397 ] المؤجلة وفي جواز ذلك دليل على وجوبها وإذا ثبت بما ذكرنا من الشواهد أن المنافع في حكم المقبوضة بالتمكين لزم تسليم ما في مقابلتها من الأجرة فإن قيل فلم جعلتم المنافع مقبوضة حكما وإن لم يكن المقبض مستقرا وجعلتم الأجرة مقبوضة قبضا مستقرا قيل : لأنه ليس يمكن أن تكون الأجرة مقبوضة حكما فجعلنا القبض فيها مستقرا ، ولا يمكن في المنافع أن يكون القبض فيها مستقرا فجعلناه حكما على أنهما سواء ؛ لأن معنى قولنا إن المنافع مقبوضة حكما ؛ لأنه قد يتصرف في الدار وإن جاز أن يزول ملكه عن منافعها بالهدم كذلك الأجرة قد يتصرف فيها المؤجر وإن جاز أن يزول ملكه عنها بالهدم .
وأما الجواب عن قوله تعالى : فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن [ الطلاق : 6 ] ، فهو أن منعناه فإن بذلن الرضاع لا أنه أراد استكمال الرضاع كما قال سبحانه : حتى يعطوا الجزية عن يد [ التوبة : 29 ] ، أي يبذلوا . ألا ترى إلى قوله تعالى : وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى [ الطلاق : 16 ] ولو كان ذلك بعد إتمام الرضاع ما احتاج إلى إرضاع أخرى فصارت الآية دليلا لنا .
وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - فهو أن استدلالنا منه كاستدلالهم ؛ لأنه قد يعرق حين يعمل فيقتضي أن يستحق أخذها قبل إتمام العمل على أنه يجوز أن يكون واردا فيمن شرط تأخير أجرته . وأما استدلالهم بالأصول واستشهادهم بالشرع فقد بينا وجه الاستدلال به فكان دليلا وانفصالا وأما قياسهم على الجعالة ، والقراض فالمعنى فيهما إن سلم القياس من النقض بالنكاح أن العقد فيهما غير لازم فلم يقع فيهما إجبار ، والإجارة لازمة فوقع فيها إجبار . أعطوا الأجير أجرته قبل أن يجف عرقه
وأما استدلالهم بأنه لو ملكها ما استرجعت بالانهدام فهو باطل باشتراط التعجيل وبالنكاح وبالبيع في استرجاع بعض الثمن في أرش العيب فبطل الاستدلال .