مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - : " ولو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : غصب أرضا فغرسها فعليه أن يقلع غرسه ويرد ما نقصت الأرض " . ليس لعرق ظالم حق
قال الماوردي : وهذا صحيح . وقد ذكرنا أن الأرض ، والعقار يجري عليها حكم الغصب إبراء ، أو ضمانا وبه قال فقهاء الحرمين ، والبصرة ، وخالف أهل الكوفة . فقال أبو حنيفة : لا يجري على الأرض حكم الغصب ، ولا حكم الضمان باليد ، وهو قول أبي يوسف الأول .
[ ص: 167 ] وقال محمد بن الحسن يجري عليهما حكم الضمان باليد ، ولا يجري عليهما حكم الغصب وهو قول أبي يوسف الأخير . وقد مضى الكلام مع أبي حنيفة ويدخل فيه الكلام مع محمد فيقال له : كل ما ضمن باليد ضمن بالغصب كالمنقول على أن ليس لفرقة بين ضمان اليد وضمان الغصب تأثير ، وإذا صح غصب الأرض فلا يخلو حال صاحبها من أن يكون قد شغلها بغراس ، أو بناء ، أو لم يشغلها فإن لم يكن قد شغلها بغرس ، أو بناء ردها وأجرة مثلها مدة غصبه ؛ وإن شغلها بإحداث غرس ، أو بناء أخذ بقلع بنائه وغرسه ، ولا يجبر على أخذ قيمتها سواء أضر قلعها بالأرض أم لا .
وقال أبو حنيفة : إن لم يضر القلع بالأرض إضرارا بينا فله القلع ، ولا يجبر على أخذ القيمة . وإن كان في قلعه إضرارا في الأرض فرب الأرض بالخيار بين أن يبذل له قيمة الغرس ، والبناء مقلوعا فيجبر على أخذها وبين أن يأخذه بقلع الغرس ، والبناء فيجبر على قلعهما استدلالا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : . لا ضرر ، ولا ضرار
وبما روى مجاهد بن جبر أن رجلا غصب قوما أرضا براحا فغرس فيها نخلا فرفع ذلك إلى عمر - رضي الله عنه - فقال لهم عمر : إن شئتم فادفعوا إليه قيمة النخل . وروى رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال : ولأن من دخل تمليك على ملك استحق المالك إزالة ملك الداخل كالشفيع . ودليلنا : ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من زرع أرض قوم بلا إذنهم فليس له في الزرع شيء وله نفقته . وروى لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا غصب أرضا من رجلين من بني بياضة من الأنصار فغرسها نخلا عما فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقلعه ، ولم يجعل لرب الأرض خيارا ولو استحق خيارا لأعلمه وحكم به ولأن يسير الغرس والبناء أشبه بأن يكون تبعا للأرض من كثيره فلما لم يكن لرب الأرض أن يتملك يسيره فأولى أن لا يتملك كثيره ويتحرر من اعتلاله قياسان :
أحدهما : أن ما لم يملك بالغصب يسيره لم يملك به كثيره كالمتاع .
والثاني : أنه عدوان لا تملك بالأعيان المنفصلة فوجب أن لا تملك به الأعيان المتصلة كاليسير .
وأما الجواب عن قوله عنه : فهو أن رفع الضرر مستحق ولكن ليس بتملك العين وإنما يكون بما سنذكره وأما قضية لا ضرر ، ولا ضرار عمر - رضي الله عنه - فمرسلة ؛ لأن مجاهدا لم يلق عمر ثم لا دليل فيها من وجهين :
أحدهما : أنها قضية في عين إن لم تنقل شرحا لم تلزم حكما .
والثاني : أن قوله إن شئتم فادفعوا قيمة النخل بعد أن طلب صاحبها ذلك وهذا عندنا [ ص: 168 ] جائز . وأما قوله : فليس له في الزرع شيء من زرع أرض قوم بغير إذنهم : ففيه جوابان أحدهما : أنه يستعمل على أنه زرع أرضهم ببذرهم .
والثاني : ليس له في الزرع حق الترك ، والاستبقاء بما بينه بقوله : ليس لعرق ظالم حق . وقوله فله نفقته يحتمل أمرين :
أحدهما : أنه أراد زرعه فعبر عن الزرع بالنفقة .
والثاني : أنه أراد له نفقته في أنه لا يرجع بها ، وأما قياسهم على الشفعة فمنتقض بإدخال المتاع ويسير الغراس ، والبناء ، ثم المعنى في الشفعة أن الملكين لا يتميزان ولذلك خصصنا الشفعة بالخلطة ، وفي الغصب يتميز فصار كالجار الذي لا يستحق عندنا شفعة .
فإذا ثبت هذا فلا يخلو حال الغرس ، والبناء من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن تكون ملكا للغاصب .
والثاني : أن يكون مغصوبا من رب الأرض . والثالث : أن يكون مغصوبا من غيره .
فأما القسم الأول : وهو أن يكون ملكا للغاصب فلرب الأرض ، والغاصب أربعة أحوال : أحدها : أن يتفقا على ترك الغرس ، والبناء بأجر وبغير أجر فيجوز ما أقام على إنفاقهما ؛ لأن الحق فيه يختص بهما لم ينظر فإن كان بعقد صحيح استحق المسمى فيه ، ولم يكن له الرجوع في مطالبة المستأجر بالقلع قبل ما يقضي المدة سواء علم قدر أجرة المثل ، أو لم يعلمها ، وإن كان بغير عقد فله أجرة المثل ما لم يصرح بالعفو عنهما وأن يأخذ . بالقطع متى شاء .
والحال الثاني : أن يتفقا على أخذ قيمة الغرس ، والبناء قائما ، أو مقطوعا فيجوز ويكون ذلك بيعا يراعى فيه شروط المبيع ؛ لأنه عن مراضاة فإن كان على الشجر ثمر ملكه الغاصب إن كان مؤبرا كالبيع ، ولا يلزم الغاصب أرش ما كان ينقص من الأرض لو قلع ؛ لأنه لم يقلع . فلو كان فعلى ثلاثة أضرب : الغاصب قد باع الغرس والبناء على غير مالك الأرض ،
أحدها : أن يشتريه بشرط الترك فالبيع باطل ؛ لأن تركه غير مستحق .
والثاني : أن يشتريه بشرط القلع فالبيع جائز ، فإذا قلعه المشتري فأحدث القلع نقصا فأرشه على الغاصب دون المشتري لحدوثه عن تعدية .
والثالث : أن يشتريه مطلقا ففي البيع وجهان :
أحدهما : باطل ؛ لأن العرف في البناء ، والغرس الترك وذلك غير مستحق .
والثاني : أن البيع جائز ويأخذ المشتري بالقلع وله الخيار إن شاء علم أم لم يعلم .
[ ص: 169 ] والحال الثالث : أن يتفقا على أخذ ثمن الأرض من الغاصب فيجوز ، وتسقط المطالبة عن الغاصب إلا بثمن الأرض وليس له أن يطالب بعد الثمن بأرش النقص لو قلع ؛ لأنه لم يقلع ولو كان رب الأرض قد باعها على أجنبي غير الغاصب كان للأجنبي الذي ابتاعها أن يأخذ الغاصب بقلع بنائه وغرسه فإذا قلع لم يكن للأول أن يطالب الغاصب بأرش القلع لزوال ملكه قبل القلع ، ولا للمشتري أن يطالبه به ؛ لأنه عيب قد دخل على رضى به ويكون البيع سببا لسقوط الأرش عن الغاصب .
والحال الرابع : أن لا يتفقا على أحد الأحوال الثلاث فيؤخذ الغاصب بالقلع لقوله - صلى الله عليه وسلم - : . فإذا قلع برئ من أجرة الأرض بعد قلعه ثم ينظر حال الأرض فإن لم تنقص بالقلع شيئا فلا شيء على الغاصب ، وقد برئ من رد الأرض بعد القلع من ضمان الغصب وحكمه ، وإن نقص القلع فيها فصارت حفرا تضر بها فالغاصب ضامن لها ، غير أن ليس لعرق ظالم حق الشافعي - رضي الله عنه - قال هاهنا : يرد ما نقصت الأرض ، وقال في كتاب البيوع في : إن عليه تسوية الأرض ، ولا يتركها حفرا فاختلف أصحابنا فكان بعضهم يتخرج ذلك على قولين في البيع ، والغصب : قلع الحجارة المستودعة
أحدهما : يرجع بأرش النقص في الموضعين بأنه نقص فعل مضمون .
والقول الثاني : أن عليه تسوية الأرض في الموضعين حتى لا تكون حفرا ؛ لأن زوال التعدي بالمثل أولى من القيمة .
وقال آخرون : بل الجواب على ظاهره في الموضعين فيلزمه في الغصب أرش النقص وفي البيع تسوية الأرض ، والفرق بينهما أن الغاصب متعد فنغلظ حكمه بالأرش ، والبائع غير متعد فنخفف حكمه بتسوية الأرض .