الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  الدورات الحضارية

                  ** كثيرا ما يثار الكلام حول "الدورات الحضارية" كمقياس صارم في [ ص: 153 ]

                  تفسير النهوض والسقوط الحضاري، في حين نجد أن الحضارة الإسلامية التي أساسها الإنسان المسلم، ومن خلال ملامح بسيطة، استطاعت النهوض في أكثر من فترة من فترات التاريخ، وكانت قادرة على شيء من التواصل الحضاري، ولو أن مساحته اختلفت من عصر لأخر.

                  من خلال اهتمامكم بالقضية الحضارية، إلى أي مدى يمكن أن ينطبق هـذا المقياس على الحضارة الإسلامية؟ وبأي شيء تختلف هـذه الحضارة عن سائر الحضارات؟

                  الحضارة الإسلامية ليست حضارة فردية نابعة من فكر شخص أو من فكر مجموعة أشخاص، كما أنها لم تنبثق عن عقيدة موضوعة من قبل مفكرين أو عباقرة.. الحضارة الإسلامية حضارة تستند إلى قيم ومبادئ، وتنطلق من عقيدة ربانية، عقيدة التوحيد التي حملها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم ، بوحي من ربه سبحانه وتعالى ، خالق الكون ومدبره، والقادر الأوحد على معرفة ما ينفع خلقه وما لا ينفع... من هـنا جاء تميز الحضارة الإسلامية، بكونها مستندة في منطلقاتها أساسا لشروط موضوعية نابعة من الذات الإنسانية بوحي إلهي، بمعنى أنه إذا لم تتوفر هـذه الشروط الموضوعية من حيث الالتزام العقيدي، ومن حيث المنهج الأخلاقي، ومن حيث الأسلوب التربوي لم تقم هـذه الحضارة..

                  الحضارات الأخرى جاءت نتيجة فلسفات، اجتهادات، محاولات بشرية الهدف منها في نهاية المطاف: ربما الإصلاح، وهي هـنا تلتقي مع الحضارة الإسلامية على هـدف الإصلاح، لكن إصلاحا قد يختلف عن إصلاح.. منطلقات الإصلاح في الحضارة الإسلامية، أو عمارة الأرض، محور الارتكاز، عندما خلق الله تعالى الإنسان خلقه لأهداف منها: عمارة الأرض، وهذا يجعل الحضارة الإسلامية متميزة على غيرها من الحضارات الأخرى، في منطلقاتها وأسسها ومبادئها بالدرجة الأولى، كما أن ديمومتها واستمراريتها مرتبطة بالضرورة بالشروط الموضوعية التي يجب أن تتوفر لتبقى الحضارة الإسلامية قائمة، لذا لا بد أن ترتبط بقدوة، بمجموعة من الرجال الملتزمين المخلصين القادرين، الذين ينفرون خفافا وثقالا ليقودوا أمتهم في مسيرة الإصلاح المتصلة وعمارة الأرض، إذا لم تتوفر هـذه النوعية من البشر لا توجد حضارة بالمعنى الإسلامي، قد توجد فنون وأعمال ونوع من الآثار التي لا نستطيع أن نسميها حضارة.. الحضارة الإسلامية فيها نفس روحي، فيها بشر، فيها قدوة، فيها ناس يقودون مركبة الإصلاح. [ ص: 154 ]

                  الحضارة الغربية المعاصرة مثلا -إن جازت المقارنة- نجدها تعيش على قوى الدفع السابقة التي وضعها أقوام سابقون، ولم يبرز في صفوف الغربيين من يواصل مسيرتهم، لذلك فقدت هـذه الحضارة جزءا أساسيا لازما لاستمراريتها وديمومتها من حيث قيادة منهج الإصلاح، رغم وجود بعض المحاولات من بعض عقلاء الغرب لتصحيح بعض المفاهيم التي انجرفت عنها مركبة الحضارة الغربية المعاصرة، لكن القضية تظل مرتبطة بانفصال الدولة عن الدين كمنطلق أساسي من منطلقات هـذه الحضارة، إذ جعل الجانب المادي فيها يغطي بصورة ملموسة على الجانب الأخلاقي العقيدي الموجود فيها، والذي يجب أن يظل فيها منطلقا رئيسا من منطلقاتها..

                  هذه -في ظني- أبرز مميزات الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية