الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  فقه الدعوة ملامح وآفاق [الجزء الأول]

                  عمر عبيد حسنة

                  الكثافة البشرية والبناء الحضاري: المعادلة الصعبة! ** من خلال ملاحظات عامة، يرى الإنسان مجتمعات فيها كتل بشرية كبيرة ولكنها مصابة بما يمكن تسميته بالكساح الحضاري، ومجتمعات أخرى قليلة العدد -بشريا- ولكنها تمتلك عطاء حضاريا.. فكأنما قضية الكثافة البشرية بالقدر الذي تعطي فيه مدى أو رصيدا يمكن أن يتولد عنه حضارة في مرحلة من المراحل يمكن كذلك بالقدر نفسه أن تكون عبئا على قضية الحضارة.. ويمكن أن نأخذ أنموذجا لذلك دولة العدو الصهيوني، رغم أن بعض الناس يعتبرها جيبا غربيا- وهو اعتبار عليه شيء من التحفظات- حيث يتبين لنا مدى الفاعلية التي يتمتع بها الفرد فيها، إذا ما قورنت بفاعلية غيره سواء أكان ذلك في عملية إقامة الدولة أو بإمكانية العنصر اليهودي في الغرب وقدرته على التأثير واعتلاء المنابر المتخصصة والضغط على الأزرار المؤثرة في العالم لقيادته باتجاهه، في حين نرى هـناك كتلة بشرية هـائلة في العالم الإسلامي وغيره من المهاجرين والمبتعثين والجاليات والمتخصصين، ولا تأثير لهم على المجتمعات التي يعيشون فيها رغم أنهم أصحاب رسالة عالمية جاءت لاستنقاذ البشرية، بينما اليهودية المحرفة ديانة مغلقة عنصرية تعصبية.. تلك قضية قد تشكل معادلة صعبة لا ندري وجهة نظركم في تفسيرها. [ ص: 173 ]

                  أعتقد أن قضية الكثافة السكانية في العالم الإسلامي لم تعالج المعالجة الصحيحة.. كل ما نعرفه عن الكثافة السكانية هـو الدعوة لتحديد النسل، وهي دعوة تتردد على لسان السياسي والاقتصادي والمفكر ورجل الإعلام.. بينما القضية ليست كذلك.. إن أي مجتمع يريد أن ينهض وينشئ حضارة، يحتاج لحد معين من السكان قادر على العطاء، وإن كانت القضية ليست قضية عدد فقط ولكنها ترتبط أساسا بالفاعلية الاجتماعية للفرد.

                  هناك كتل بشرية كبيرة تعيش على مجموعة قليلة هـي التي تنتج، ويمكن أن أقدم مثلا صارخا على ذلك: الهند والولايات والمتحدة .. عدد سكان الهند أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة ، فلو نظرنا إلى الطاقة الإنتاجية في المجتمع الهندي والطاقة الإنتاجية في المجتمع الأمريكي لوجدنا في الولايات المتحدة عشرين ضعفا للموجود منها في الهند رغم أن عدد سكان الهند أكبر بكثير.. والسبب هـو الفاعلية الاجتماعية..

                  إن الطاقة الإنتاجية الشاملة ليست بالمفهوم الاقتصادي فقط، وإنما الطاقة الإنتاجية على المستويات كلها، فالفاعلية الاجتماعية هـي قدرة الإنسان على العطاء من حيث التأهيل والتدريب والذكاء ونحو ذلك.. هـذا هـو محور الارتكاز وليس عدد السكان فقط.. فالمعادلة مكونة من عاملين مضروبين ببعضهما: عدد السكان مضروبا بالفاعلية الاجتماعية، فإذا كانت الفاعلية الاجتماعية منخفضة فإن السكان مهما كان عددهم كبيرا، لن يرتقوا بالطاقة الإنتاجية إلى مستوى مقبول.

                  ويمكن أن أضرب مثلا آخر في بريطانيا ، ويجب علينا نحن المسلمين أن نتعلم من دروس الآخرين عندما نسعى إلى تحديد النسل بغوغائية وبأسلوب غير منطقي وسطحي جدا نتيجة اللهاث خلف بعض الأفكار والرؤى الغربية، فكثير من اقتصاديينا لا يزالون للأسف منبهرين بهذه الأفكار والرؤى، ويسعون لتطبيقها في مجتمعنا.

                  ففي بريطانيا اكتشفوا -نتيجة لتحديد النسل- أن متوسط عمر الإنسان الآن هـو خمس وأربعون سنة، وهذا يعني أن العطاء سيكون قليلا، ولذا يعكف البريطانيون الآن على دراسة رفع الحظر على الإكثار من الإنجاب.. ولولا بعض العوامل الاقتصادية لديهم لدعوا الأسرة البريطانية "لإنتاج" أفراد أكثر، ومثال ثالث من جزيرة " سنغافورة " التي تعتبر أنموذجا في بحر متلاطم من التخلف في جنوب شرقي آسيا من حيث القدرة على العطاء والقدرات الاقتصادية الهائلة رغم أنها ليست ذات موارد، رقعتها الأرضية محدودة جدا، لدرجة أنهم يزيلون المقابر القديمة لإضافة رقعة جديدة يستثمرونها.. هـذه الجزيرة [ ص: 174 ] أصدرت في منتصف الستينيات قرارا بتحديد النسل حيث ربطت عدد الأطفال بشريحة ضريبية يدفعها الفرد اعتبارا من الطفل الثاني.. غير أنهم اكتشفوا في منتصف السبعينات -أي بعد حوالي عشر سنوات من صدور القرار- أن نسبة الذكاء بالمجتمع انخفضت تماما! وبدأت الصيحات تتعالى -في الصحافة ووسائل الإعلام، في البرلمان، والرأي العام- تطالب برفع مستوى الذكاء.. فقيل لهم: إذا أردتم ذلك فعليكم زيادة عدد السكان.. فقالوا: كيف نزيد ونحن لا نستطيع لأن رقعة الأرض محدودة؟.. قيل لهم: لماذا لا تستحثون هـمم الأذكياء من أبناء الشعب، رجالا ونساء، على التزاوج فيما بينهم أو على أن ينتجوا أولادا بأية أساليب أخرى.. وكادت أن تسقط الحكومة نتيجة هـذا الاقتراح إذ قالت واحدة من النساء: "ماذا يتوقع منا رئيس الوزراء؟ أن تقفز المرأة الذكية على سرير أي رجل يطلبها من أجل تحقيق تطلعاته في رفع مستوى الذكاء؟ يجب عليه أن يثوب إلى رشده وأن يتعامل معنا كبشر، فإما أن يسمح بالنسل لحدود معينة ويزيل هـذه الضريبة المجحفة أو أن يعيد النظر في خططه الاقتصادية".

                  والشاهد من ذلك كله، أننا نحن المسلمين لم نتعامل إلى الآن مع قضية الكثافة البشرية من منطلق حضاري واقعي، صحيح أن هـناك معاناة شديدة في بعض بلدان العالم الإسلامي ولكن سبب هـذه المعاناة ليس في عدد السكان بقدر ما هـو في الإدارة الفاسدة السيئة التي تشرف على إدارة الموارد..

                  أنا لا أريد أن أضرب أمثلة لذلك بدول إسلامية بعينها خوفا من الحساسيات.. لكنني أعرف الكثير من الأمثلة، ففساد الإدارة وسوءها هـو السبب الرئيس للمعاناة، لذا يخرج بالقضية عن إطارها الصحيح ويركز على قضية تحديد النسل.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية