الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  التدرج في التطبيق

                  ** في الحقيقة: يمكن أن يكون فرعا عن هـذا الكلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الناس بالتدرج في التشريع، وأنه قضى فترة من الزمن في مكة لم يكسر صنما، ولم يمارس المسلمون أية عملية مواجهة مادية، وإنما كانت القضية قضية بيان لحقائق العقيدة، وكانوا يحتملون ما يقع عليهم ويصبرون.. وعندما دخل مكة فاتحا لم يبق على الأصنام لحظة واحدة؛ فكان أول عمل بدأ به هـو كسر الأصنام، نريد أن نلقي شيئا من الأضواء للعاملين في الحقل الإسلامي حول هـذه القضية.

                  من الممكن فعلا تقسيم فترة الرسالة بين العهدين - العهد المكي والعهد المدني - ومن الممكن أن يقال: إن العهد المدني كان عهد تشريع، وإن العهد المكي كان عهد بيان للعقائد وأخذ للنفوس بها وتكوين لمجتمع؛ أساس الترابط فيه الإيمان بالله وصدق الاتجاه إليه.. ولا شك أن التدرج كان سنة في بعض الشرائع الفقهية الفرعية في الإسلام، فمثلا الربا كان أول ما نزل فيه [ ص: 127 ] قوله تعالى: ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هـم المضعفون ) [الروم:39]، فهناك تلويح بأن الربا مرفوض، لكن الحسم في تنظيف المجتمع من الربا ومحو آثاره كلها كان في العصر المدني لا في العصر المكي.. وآخر الآيات في هـذا نزولا قوله تعالى: ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) [البقرة:275] وقوله: ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) [البقرة:276]، وقوله: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ) [البقرة:278].

                  فكان التشريع حاسما، وكذلك في تشريعات الخمر وما إليها، لكن لا نستطيع أن نقول: إن الذين يعملون للإسلام الآن يتدرجون في شرح الحقائق الإسلامية العلمية؛ لأن هـذه الحقائق قد اكتملت، ومنذ نزل قوله تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم.. ) [المائدة:3] أصبحنا مكلفين بعرض الإسلام كله آية آية وسنة سنة.

                  لكن بناء الدولة بعد نشر الدعوة، هـذا لا بد فيه من التدرج؛ لأن البناء الذي انهدم على عدة قرون لا يمكن أن يتم إعادة صرحه في خلال أسابيع أو في خلال أعوام قليلة، ولذلك كان كبار المصلحين يقولون: الزمن جزء من العلاج؛ بمعنى أني لا بد أن أقول: الحدود تقام، وما أقبل مماراة في حد، لكن عند التطبيق لا بأس أن أشرع فورا بحد الافتراء.. أو حد قطع يد السارق؛ لأن ذلك سهل، ويمكن إرجاء بعض الحدود إلى أن تواتيني فرصة التنفيذ.. فعلميا أنا مكلف ببيان الإسلام كله، وعمليا لا بد أن أتدرج في التطبيق العملي، وهذا ما تفرضه أحوالنا التي لا بد منها، فالدواء الذي لا بد أن يتجرعه المريض ليصحو أعطيه له جرعة جرعة.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية