الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  التحكم الحضاري

                  ** يوجد في العالم الآن ما يسمى "التحكم الحضاري" وتعميق الفجوة بين العالم المتقدم والعالم المتخلف، بإقامة مناخات سياسية في العالم الثالث لا تسمح بنمو البذور والأجنة العلمية والتكنولوجية، وفي الوقت نفسه تتيح الفرص للدول الكبرى لامتصاص العقول [ ص: 170 ] المهاجرة، وكأن الإنسان يشعر بلون من التحكم الحضاري يبقي البلاد المتقدمة متقدمة، والمتخلفة متخلفة، بمعنى أن الدول المتقدمة المتحكمة تمتص الطاقات من الدول المتخلفة، وتقيم أو تساعد على إقامة مناخات لا تسمح لهذه العقول المهاجرة بالعودة، كما لا تتيح الفرصة لنمو عقول جديدة، بل تضع من العراقيل ما يجعل العقول المفكرة محاصرة مطاردة في موطنها لتكسبها هـي فتكون أدمغة وسواعد في عجلة الحضارة الغربية.

                  هذه قضية أساسية ومهمة، لكن ما أود أن أقوله -وأظن أنك تتفق معي فيه- إننا إذا انتظرنا الإذن من الغرب أو الشرق فلن نحصل عليه، وسيظل هـؤلاء حريصين على أن يزيدونا خيالا، وأن نبقى مرتبكين في أولياتنا، غير قادرين على تبصر طريقنا، لنظل في أسر التبعية، مشاكلنا ذاتية بالدرجة الأولى، والتبعية التي نعيشها آن لنا أن نكسر طوقها ونتمرد عليها، ولا يكون ذلك إلا بأن نواجه أنفسنا مواجهة صحيحة، وأن نصحح مفاهيمنا وقيمنا ونظم حياتنا، وأن نرسي قواعدها على أسس ومنطلقات إسلامية صحيحة، وإلا فلا أمل في كل ما نقوله ونتحدث به، ولا أمل في كل ما نسعى إليه، أنا أعتقد أن نظم الحياة ترتبط ببعضها، السياسي مع الفكري مع الاجتماعي مع الاقتصادي.. ولا يمكن أن تعالج نظاما بعزله عن الأنظمة الأخرى، فلو وفرنا للفرد المسلم، القادر على العطاء، الفاعل، المتعلم، المتخصص، الجو المناسب من الحرية الفكرية، ومن الإمكانات المادية، ووضعناه على المحك فإننا سنجد عند ذلك ما يرضي، سنجد قدرات فائقة.. يجب ألا نستسلم لليأس.

                  ** لم نقصد الاستسلام لليأس، ولكنه نوع من طرح القضية، لأن معرفة الأبعاد التي تتحرك فيها نوع من عدم الاستسلام لليأس، ولو كان الإنسان يائسا لما عرضت له القضية أصلا، ولما كان هـناك داع لطرحها.. طرحها بحد ذاته دليل على عدم اليأس، وما يريد الإنسان أن يقوله هـنا: إن السلطان السياسيي -الحاكم السياسي، الصور السياسية في العالم عامة- أصبحت له حواس إضافية، فأنت لا تستطيع أن تنشئ أجنة بعيدة عن متناوله، وتقتلع من ذهنها التعامل بالقضية السياسية حتى لا تصاب في الطريق، ولا تستطيع أن تبني حضارة، أو أن تشكل أفرادا قادرين على بناء حضارة بعيدا عن التعامل مع السياسة التي يمكن أن تلحقهم عواصفها.. فهل بالإمكان بناء هـذه الأجنة؟ علما بأني أعتقد بوجود آفاق [ ص: 171 ] كثيرة يمكن التعامل معها لبناء الأجنة الحضارية بعيدا عن صور العواصف السياسية التي يمكن أن تقتلع البذر.

                  العجيب في الأمر أننا نتعامل مع السياسة كلفظة ومفهوم وتطبيق من منطلق الخوف والحرص والحذر، لدرجة أن كلمة "سياسة" بحد ذاتها أصبحت "بعبعا" مخيفا، لماذا؟ ما هـي السياسة؟ السياسة هـي القدرة على أن تسوس حياتك، تبحث من خلالها عن الأصلح -على الأقل بمفهومي- صحيح أنني لست متخصصا في العلوم السياسية، لكنني أفهم السياسة بالمفهوم العام الشامل، أي: ليس باستطاعتك أن تعزل أي نظام من أنظمة الحياة عن غيره من سائر الأنظمة -التأثر والتأثير- لكن هـناك أدوارا على كل واحد منا أن يقوم بالدور المنوط به منها، هـناك السياسي المحترف الذي يقود المركبة في البحار المتلاطمة للسياسات الدولية، هـو قادر -أكثر مني مهندسا، ومنك عالما، ومن زيد مفكرا- على قيادة هـذه المركبة.. إذن علينا أن نوفر له كل القدرات والإمكانات التي تعينه وتساعده، وعليه في الوقت نفسه بأن يوفر للمتخصصين في الجوانب الأخرى كل الضمانات لينصرفوا إلى عملهم، يجب ألا نخلط الأوراق، وألا نتعامل مع بعضنا من منطلق الريبة والشك، مشكلتنا العظمى أننا نتعامل مع بعضنا من منطلق الريبة والشك، لماذا؟ لماذا لا تكون الثقة متبادلة بين الجميع ما دام الهدف هـو الارتقاء بالمجتمع المسلم، والوصول به إلى أعلى مستويات الحضارة والتطور؟ قد يبدو في كلامي نوع من الحماس أو العاطفة، أو نوع من التنظير، غير أن الحقيقة هـي هـذه.

                  ** هـذا مطلب لا شك في وجاهته، لكن إزالة الحواجز أو الوصول إلى هـذا المطلب، أو التحقق بهذه القضية في العالم الإسلامي هـو المشكلة..

                  أعتقد أن هـناك مشاكل وقضايا كثيرة نعاني منها، لو انصرف الإنسان إليها لظل مسجونا في دائرة الشجون والأحزان والبكاء على الأطلال، ولابتعد عن قضايا الأمة.. غير أنها محاولة، كل منا على ثغرة، فليحرص ألا تؤتي الأمة من قبله، ولو أن كل واحد منا أخلص في مجاله، وقام بما هـو موكل إليه من عمل -أي عمل- وأدى ما يجب عليه أن يؤدي، وأعطى كل ما عنده من علم أو قدرة أو إمكانية لما هـو مكلف به، أو في الموقع الذي هـو فيه فلن يشك الآخرون عندها في نواياه ولا في منطلقاته، سيطمئنون إليه.. إن قضية بناء الثقة بين الأفراد تحتاج إلى وقت.. وأنا أعتقد أنه في خضم حركة التحرر من [ ص: 172 ] الاستعمار الغربي في العالم الإسلامي أصبحت كلمة "سياسة" أشبه بقميص عثمان رضي الله عنه

                  ، كل إنسان يريد أن يظهر وطنيا مخلصا، وأنه قادر، فالعالم أصبح سياسيا، والمهندس وأستاذ الجامعة وطالبها كذلك، فإذا كنا جميعا ساسة، فمن نسوس؟ ومن يقوم بالأعمال الأخرى؟ هـذا الأمر أدى إلى إيجاد نوع من الفجوة وعدم القدرة على ضبط الأمور وتحقيق التوازن.. فيما أسلفنا طالبنا بوضع حدود، حدود محددة لكل واحد في مجال تخصصه، الكلام نفسه ينسحب أيضا على السياسة والسياسيين، كما ينسحب على الثقافة والمثقفين.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية