الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  فقه السنن في الأنفس والآفاق

                  ** من قضايا الفكر والعمل الإسلامي الهامة، التي تطرح نفسها بإلحاح - مؤخرا - قضية فقدان التوازن الاجتماعي عند كثير من العاملين في حقل الدعوة، وهو يتعامل مع المجتمع الذي قد ينطوي على أخطاء وانحرافات، وذلك بأن يتخذ مواقف متباينة، لا تقوم على فقه صحيح لسنن الله الكونية في نضج الحقيقة واستوائها في المجتمع، ولا تعتمد على أساليب مدروسة للدعوة الإسلامية. وتتخذ هـذه المواقف: إما صورة الرفض الكامل للمجتمع وتأثيمه والخروج عليه لتغييره - رغبة في تحقيق نتائج عاجلة - أو صورة الانسحاب من المجتمع والهروب منه واعتزاله، بسبب إحباطات عدم الحصول على هـذه النتائج العاجلة.

                  من خلال تجربتكم بالعمل في مجال الدعوة الإسلامية الحديثة ودراستكم الواسعة لفقه السيرة النبوية.. كيف ترون معالجة هـذه القضية؟

                  هذه القضية في مجال الفكر - والعمل الإسلامي بالذات - لها سوابق في التاريخ، قديما وجدوا أخطاء من الحكم أو من الحكام، فكان موقفهم متباينا بسبب نوع الثقافة الذي سيطر عليهم.. فوجدنا مثلا الخوارج يفزعون إلى سيوفهم، ويطمئنون إلى عقائدهم، [ ص: 122 ] ويرون أن حبهم للتضحية ووعد الله بالنصر يتيح لهم أن يخرجوا وأن يقاتلوا وأن يحدثوا فتوقا في الدولة لا آخر لها.

                  والنوع الثاني كان يتمثل في عدد من المتصوفين الذين اعتزلوا المجتمع وأخطاءه، والحكم ومآربه وشهواته، ورأوا أن في العزلة سعادة، وأنه خير لهم أن يتركوا المجتمع بما فيه - وفي العزلة سلامة - وجعلوا ينظرون إلى الأحاديث التي وردت في الغربة والعزلة ويتأولون على موقفهم هـذا.. الحقيقة التي أراها أن كلا الفريقين مخطئ، فلا الذين خرجوا معتمدين على وقوع الخطأ وضرورة مقاومته كانوا على الصواب الذي يقرره الإسلام، ولا الذين اعتزلوا الخاطئين وانحرافهم كانوا مصيبين أيضا.

                  الإسلام يريد أن يقاوم الخطأ، ولكنه يضع خططا بعيدة المدى، ويجعل الإنسان على اختلاف الزمان والمكان، وعلى مراحل ممتدة من الزمن يبلغ غايته على مكث، ولله سنن كونية في نضج الحقيقة واستوائها في المجتمع، مهما كانت عقائدنا ومهما كانت حرارة الإيمان في قلوبنا، ومهما كانت ضراعتنا له أن ينصرنا.

                  لهذا أرى أن الذين يقومون بالعمل الإسلامي الآن، يجب عليهم أن يتعلموا من أخطاء الفريقين في الماضي، وأن يكونوا أصحاب إيمان وأصحاب غيرة على حرمات الله وأصحاب رغبة في التغيير إلى ما هـو أفضل؛ ولكن متابعة هـذا التغيير حتى يصل إلى مداه لا تتم وفق مشيئتنا، ولكن وفق سنن الله الكونية، وقد خضع النبي صلى الله عليه وسلم لهذه السنن، وعندما استعجله أصحابه وقالوا له: ادع الله لنا - لأن الآلام التي برحت بهم جعلتهم يجأرون بالشكوى - كانت الإجابة النبوية: ( والله لينصرن الله دينه ولكنكم تستعجلون ) . كانت الإجابة النبوية: ( أن الرجل قديما كان يؤتى به فيشق نصفين ما يفتنه هـذا عن دينه ) ، فلابد للإيمان من ضحايا، ولابد لحركاته التي تغير العالم وتكتب فيه صفحة جديدة من وقود، يقوم المؤمنون بإمداد سنن الله الكونية بمتطلباتها في هـذا المجال، وليس لهم أن يستغربوا، ولا أن يتعجلوا، وأعتقد أن الاستعجال هـنا أو الاستغراب جهل بسنن الله الكونية، فلم يكن أحد أعظم خلقا ولا أكثر دماثة من النبي صلى الله عليه وسلم في عرضه لحقائق الإسلام، وفي تلطفه لبلوغ غاياته، ومع ذلك فإن الذين ربطوا أوضاعهم ومصالحهم بما مضى أو بما استقر من أوضاع، كانوا حريصين على [ ص: 123 ] كره الإسلام ومخاصمة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويقول الله سبحانه وتعالى في هـذا: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هـاديا ونصيرا ) [الفرقان:31]، ويقول في هـؤلاء: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) [الأنعام:112].

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية