الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  منطق العبودية

                  ** يفسر بعضهم هـذه الظاهرة بأنها نتيجة عدم فقه السنن الكونية، والوقوع في إحباطات نتيجة لعدم الحصول على نتائج.. فحينما لا يحصل الإنسان على النتيجة التي يحلم بها أو يراها، يقع في إحباط يجعله ينعزل عن المجتمع وينسحب منه، أو يخرج عليه، أو يذوب فيه، فالمشكلة تكمن في عدم إعطاء السنن الكونية مكانتها في العقل الإسلامي، حتى إن بعضهم يرى بأن المسلمين لا يفتقدون الإخلاص والإيمان في هـذه المرحلة - وقد قدموا الكثير من الوقود للعمل الإسلامي - لكنهم يفتقدون الإدراك وفقه السنن التي تحكم الحياة والأحياء.. فما رأيكم حول هـذا التفسير؟

                  لا يمكن فعلا أن يكون إخلاص الإنسان مهما كان عميقا، وحبه لله مهما كان مكينا، لا يمكن أن يكون هـذا وذاك سببا في إلغاء السنن التي أدار الله عليها شئون العالم، فهي سنن مكينة - وقد أخضع الله أنبياءه لها، فلم لا يخضع لها الأتباع؟!

                  ثم إن منطق العبودية - ولست هـنا صوفيا إنما مقرر حقيقة دينية - منطق العبودية أن أنظر إلى أقدار الله تعالى على أن هـذه الأقدار أرشد من تفكيري، ومن خططي، وهي الجو الوحيد الذي يمكن أن تتضح فيه الحقائق الاجتماعية التي يحتاج الناس إلى أن يعيشوا بها، ليس ما أفكر فيه أو ما أضع خطته هـو الذي يحقق المراد - لا - نحن عبيد الله. ونلمح هـذه العبودية وقصورها وعدم معرفتها للمستقبل وعجزها عن إدراك المصلحة العاجلة في [ ص: 124 ] غزوة بدر.. فإن جمهور الصحابة كان يريد الثمرة العاجلة: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم.. ) [الأنفال:7]. وكذلك كان الجمهور كارها للمعركة ابتداء، حتى إن القرآن يذكر هـذا بقوله عز وجل ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ) [الأنفال:5].

                  هم يساقون إلى الموت في إحساسهم، ولكنهم لا يدرون أن القدر يسوقهم إلى أعز نصر ستدركه الدعوة الإسلامية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم هـذا يجعلنا نضع خطوطا فاصلة بين تصورنا نحن وإدراكنا للحقائق، وبين ما يخططه القدر الأعلى لنا، لعل ذلك يجعلنا نشعر بأننا عبيد، وبأن مراد الله تعالى ينبغي أن نستسلم له أكثر، وأن نستريح إلى نتائجه مهما كانت مرة..

                  لماذا يكون غيرنا قديرا على ربط نتائج عمله بزمن طويل؟

                  في أول مؤتمر صهيوني (1897م) قال هـرتزل : إن إسرائيل ستقوم بعد خمسين سنة. وأراد اليهود أن يحققوا وعد الرجل أو نبوءته، فأقاموها سنة 1947م، عندما صدر قرار تقسيم فلسطين 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947م.. وفي الحقيقة لم يكن هـرتزل يفكر في أنه سيعيش حتى يدرك هـذه النتيجة، ولكن ربما رأى أن ما يعجز هـو عنه سيحققه أبناؤه، وما عجز أبناؤه عن تحقيقه سيحققه أحفاده، المهم أن جنسا تتعاون أجياله المتعاقبة على إدراك نتيجة. ماذا علينا نحن المسلمين - ونحن نرث أخطاء لها عدة قرون - أن نضع خطة بعيدة الأمد لكي نتخلص من هـذه الأخطاء، ولكي يشعر أبناؤنا أنهم يحملون عبئا مع الذين وضعوا الخطة، فإذا كان بعض الناس قضى نحبه، فإن بعضهم الآخر ينتظر، والذي ينتظر ربما يموت قبل أن يرى النتيجة، ولكنه يخلف من بعده من الأولاد أو من الأنصار من يجعلهم يؤدون حق الله عليهم، قال تعالى: ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ) [يونس:46].

                  ولهذا لا أزال أناشد أهل الحق ألا تكون العاطفة الحارة هـي التي تسيرهم، بل ينبغي أن ينضم إلى القلب الواثق عقل ثاقب ونظر دقيق حتى يمكن أن نخدم ديننا، خصوصا بعد أن [ ص: 125 ] اتسعت مسافة الخلف بيننا وبين أعدائنا.. إننا في الناحية المعاشية والفكرية والفلسفية متخلفون جدا، الآخرون غزوا الفضاء ووضعوا أرجلهم على بعض الكواكب ويدرسون كواكب أخرى، ولا نزال نحن نعتمد في الرغيف الذي نأكله على ما يصنعه الآخرون لا على ما نصنعه نحن..

                  ** المشكلة في الواقع تكمن في أن بعضهم قد يفهم قضية أقدار الله الغلابة - والتي يجب أن يطمئن لها المسلم - وإرادة الله النافذة في نهاية المطاف، قد يفهم هـذا على أنه لون من الجبرية تقعد به عن ساحة التكليف، وإتقان المقدمات، وانتظار النتائج، ودراسة أسباب التقصير واستدراكها، حتى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين - أو ما إلى ذلك - وحتى لا يكون هـناك اختلاط بين إيمان الناس بالقدر وبين إتقانهم للعمل وقيامهم به.

                  الفارق بعيد بين جبرية ترمي العزيمة الإنسانية بالوهن وتجعل الإنسان يتكاسل ويمشي متثاقل الخطا، وبين تقدير لسنن الله الكونية.. إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه كلمات كثيرة تعتبر سننا كونية.. فمثلا يقول: ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) [يوسف:90]، ويقول: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) [القصص:83].. ويقول في بني إسرائيل -قديما -: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) [السجدة:24].

                  معنى الصبر واليقين: أن الأمر يحتاج إلى زمن - واستعجال الزمن خطأ - ومن قوانين الله الكونية أن أعمل وأنا موقن بنصر الله، لكن ليس من قوانينه أن تنفذ الأمور حسب تقديري أنا.. فالزمن عندي له ثوانيه وساعاته وأيامه.. حساب طويل، لكن الزمن عند الله تعالى له حساب آخر: ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) [الحج:47]. وعندما ذهب المسلمون في غزوة الحديبية كانوا واثقين من أنهم داخلون في الحرم ومؤدون العمرة، لكن لفتهم أبو بكر عندما طلبت نفوسهم: "أقال لكم في هـذه السنة؟..".. أي: لا بد من عودة، [ ص: 126 ] وسندخل، إلا أن تحديد زمن الدخول ندعه لله عز وجل..

                  ..إنني أؤكد على هـذه المعاني، لأني وجدت معارك كثيرة حدثت بين المؤمنين وبين الكافرين أو بين أعداء الله، كان المؤمنون فيها أصحاب قلوب تنبض باليقين وأصحاب نفوس متوجهة إلى ربها عن إخلاص، ولكنها ما أحسنت الخطة، ولا درست الميدان، ولا قدرت العواقب، فكان فيما أصابنا من هـزائم ما يمكن أن ينطبق عليه قوله تعالى: ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هـذا قل هـو من عند أنفسكم ) [آل عمران:165].

                  فهزائم كثيرة أصابت الأمة الإسلامية وأصابت المجاهدين في هـذه الأمة؛ لأنهم لم يحسنوا التخطيط للمعركة، والعقل لابد منه، إنه أثمن هـدية أعطاها الله خلقه، وقد أحصيت كلمة (أولي الألباب) في القرآن الكريم، فوجدتها تكررت في ستة عشر موضعا، ومعنى هـذا أن الذين يخدمون الإسلام يجب أن تكون لهم عقول كبيرة..

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية