الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  فلسفات سحابية

                  ** نعم لأنه في الحقيقة يخشى -بعجز المسلم عن إبصار الساحة التي يتعامل معها- أن يعلن عن قضايا كبيرة فلا يستطيع من خلال إمكاناته أن يحققها فيقع في شيء من الإحباط، ويوقع الآخرين بشيء من الانكسار، والذي أردته أن يكون عنده فقه للصورة التي يتعامل معها من خلال إمكاناته المتوفرة، ومن خلال الفرص المتاحة له.

                  بعض الناس عندما يعتنق دعوة الإصلاح الإسلامي، يكون أول ما يفكر فيه ضرب الحاكم، هـذا إنسان فيه بلاهة، لأن آخر ما يفكر فيه المصلح تغيير أجهزة الحكم.. طبعا الآن هـناك إصلاح في البيت، وإصلاح في الشارع، وإصلاح للتقاليد، وإصلاح للأخلاق، وهناك أمور كثيرة جداقبل أن تصل إلى الديوان الذي تجلس فيه لتحكم.. لماذا نتخطاها كلها ولا نفكر فيها، ولا نفكر إلا في أن نذهب إلى الديوان لنجلس فيه ونحكم.. الذي ينسى الطريق الطويل قبل الوصول إلى ديوان الحكم، وكل تفكيره وهو يبدأ أول الطريق أن يتجاوز المسافة الطويلة العريضة ليصل إلى الديوان، إنسان أستطيع أن أتهمه في نيته إن لم أستطع اتهامه في عقله، فكر أولا في الدعوة الإسلامية، الدعوة [ ص: 145 ] الربانية التي أساسها معاملة الله، وإذن كان الناس في أوروبا يقولون: أنا لا صلة لي بمسلك الإنسان الشخصي، ليكن سكيرا، ليكن مقامرا وفاسقا، هـذا مسلك شخصي له، وما يهمني هـو عمله للدولة وعمله للمجتمع.. فهذا الكلام لا يمكن فهمه من الناحية الإسلامية.. الله سبحانه وتعالى أمر بأن أصلح نفسي، وعلى ضوء إصلاحي لنفسي أصلح الناس.. يعني مع تجاربي في إصلاح نفسي أصلح الناس.

                  ** وقد يكون بعضهم -في الحقيقة- صاحب نية سليمة وصحيحة، لكنه عاجز عن إدراك الصورة التي يتعامل معها فيندفع إلى بعض المواقف التي توقعه في الإحباط والانكسار وضياع القضية أصلا.

                  وتبقى نقطة أخرى: إن بعض المسلمين في هـذه الأيام يعتقد بأن ساحة العمل الإسلامي مقتصرة على درس بالمسجد وعلى خطبة على المنبر، وعلى زي معين يلبسه وأن يخرج في يوم من أيام الأسبوع إلى قرية مجاورة أو ما إلى ذلك، وأن هـذا هـو الإسلام وهذه أبعاده لدرجة ينفصل معها عن المجتمع وعن الدراسة وعن العلوم العصرية، وقد يدع بعضهم الجامعات في سنة متقدمة اعتقادا منه بأن قضية الدعوة أهم، وأن قضية الدعوة هـي قضية أخرى مقابلة لما هـو فيه، فهو عاجز أيضا عن أن يرى الدعوة من خلال نبوغه واختصاصه العلمي وقدرته على اعتلاء المنابر الفاعلة في المجتمع.

                  هذه مشكلة فعلا اعتورتنا ونحن ندعو للإسلام، ووجدنا أن بعض الناس اعتنقوا فلسفات سحابية غريبة، جعلتهم يختصرون الطرق وبدل أن يذهبوا ليتزودوا بالعلم لكي يخدموا دينهم في الميادين الرحبة, ظنوا فعلا أن الدين هـو هـذه الركعات في المسجد، وهذه السلبيات التي يعيشون في داخلها في قوقعة، هـؤلاء الناس محتاجون لمن يوسع فقههم، وماذا أستطيع أن أقول لرجل يحب الجهاد ويحرص على أن يكون الجهاد فوق صهوة الخيل وبالسيف؟ ماذا أقول لهذا المخلوق إذا كان طيب القلب ويريد أن يموت شهيدا وعقد العزم على أن يكون مجاهدا في سبيل الله؟ لماذا لا يعلم أن الجهاد الآن له كليات للبر وللبحر وللجو، وأن الجهاد أصبح علما له امتدادات علمية تكاد تشتمل كل شيء في الحياة العامة؟ مثل هـذا المخلوق يجب أن نفتق ذهنه بأي طريق حتى يعقل، وإذا [ ص: 146 ] كان بعض الناس مغلقا لأنه من النوع الذي يقول في الرجل الصالح:

                  "من أصحابي من أرجو دعوته وأرفض شهادته" يعني "تقي" لكنه لا خبرة ولا فقه لديه، فإنه يلزم حده فلا يشتغل بالدعوة، يكفيه بأن يأمر بالمعروف في حدود ما يعرف من المعروف، وينهى عن المنكر في حدود ما يعقل من منكرات، أما أن يعمل للدائرة الإسلامية الكبيرة التي تجعل رب العالمين ينزل كتابه هـداية للعالمين فهذا دون هـذا المستوى، ومن الخير أن يلزم كل منا مكانه.

                  إن مواهب الناس كثيرة ودون طعن في أحد، فأبو ذر سيدنا -ورحم الله أبا ذر - ولكنه لا يصلح للعمل الإداري، وعندما طلب أن يكون عاملا أو أميرا في مكان من الأماكن صارحه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ضعيف لا يصلح للعمل الإداري، وقال له: ( هـذه أمانة وإني أراك ضعيفا ) - وهذه الأمانة ستكون يوم القيامة خزياوندامة إن لم يأخذها بحقها ويؤدي الذي عليه فيها- فقد تكون مواهب الإنسان فنية فيستطيع أن يكون عالما كبيرا في ناحية من النواحي، ولكن لا طاقة له بالناحية الإدارية، فالرياسة والقيادة العسكرية فن.

                  لقد دخل خالد بن الوليد الإسلام بعد أربع سنين فقط من النكبة التي نزلت بالمسلمين في "أحد" ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى إخلاصه وقدر مواهبه، وعرف إمكانات الرجل الكبير بعد ما حسن إيمانه، فقلده القيادة وجعله من سيوف الله المسلولة على أعداء الله، بينما يوجد ناس كثيرون بقوا في وظيفة العمل العادي لأن هـذه مواهبهم.

                  ** استعدادات وقدرات فردية..

                  نعم، فكون أحدهم طبيبا، يرى -لأنه طبيب- أن يكون طليعة المسلمين؟! لا، هـذه مواهب وزعها الله على عباده.. فقد أصلح أنا شخصيا لشيء وأجود فيها وأفشل في شيء آخر وأكون أقل من العادي، فلا معنى لأن أضع نفسي حيث لا أصلح، فالعمل للإسلام يحتاج إلى رجل له بصيرة، وقائد أيضا له بصيرة يستطيع أن يصنف الناس الذين معه ويوزعهم على الأعمال التي يحتاجون إليها.

                  ومن البلاء الجسيم -وقد حدث هـذا في وقعة من وقعات فتح فارس- أن رجلا محبا [ ص: 147 ] للشهادة "قاد الجيش فقتله" لأنه محب للشهادة، في وقعة الجسر أظن وكان الانهزام شديدا للمسلمين.. لا.. الأمر غير هـذا.. خالد بن الوليد لما وجد أن المعركة غير متكافئة في "مؤتة" انسحب، فأنا أعطي القيادة عمرا وأعطيها خالدا.. من أصحاب الكر والفر، من أصحاب القدرة على الانطلاق وعلى العودة لأنه لا يريد -مجرد- أن يموت، بل يريد أن يحيا لدينه وأن يموت لدينه.. فالقصة ليست قصة موت وانتهى الأمر، القصة قصة كيف أخدم الإسلام وأضع الحسابات، فإذا جاء بعض الناس الطيبين وأحب أن يقود أو أن يكون أمير جماعة لأنه مخلص وانتهى الأمر -لا- لا يصلح هـذا، بل يجب أن يعطى حقه الطبيعي في مكانه التوجيه العلمي أو التوجيه الشخصي أو ما إلى ذلك، وله أن يلزم مكانه ولغيره أن يتقدم.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية