الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  سبيل الخروج من الحيرة الفكرية

                  ** كيف يمكن في تصوركم الخروج من الحيرة الفكرية التي تتجلى بوجود تيارين الآن في العالم الإسلامي:

                  تيار الدعوة للعودة إلى الفكر التراثي كوسيلة لا بد منها للخروج من الأزمة، بينما يرى التيار الآخر أنه لا بد من الالتزام بمنطلقات الفكر المعاصر، هـذا في الوقت الذي قد لا نرى فيه - من حيث المحصلة الحضارية، من حيث النتيجة من حيث العطاء الحضاري- فارقا بين هـؤلاء وأولئك، والمعركة بينهما غالبا ما تكون معركة شعارات إلى جانب بعض المظاهر السلوكية في التقليد والمحاكاة أكثر منها في القدرة على الإبداع؟!

                  أعتقد أن هـذا التشخيص لواقع المسلمين من خلال هـذين التيارين دقيق وسليم، ويحدد المشكلة ومعاناة المسلمين، لقد ابتلينا بقدرة عجيبة على أن نصنف أنفسنا، ونمزق أنفسنا أيضا من الداخل تحت شعارات ومنطلقات، ونسينا المهمة الأساسية التي خلق الله عز وجل المسلم لأجلها في هـذا الكون، وهي: دعوة الإنسانية إلى الحق، والالتزام به قولا وعملا، وأصبحنا ننزلق في تيارات مختلفة، أو في تحليلات لتيارات مختلفة مقلدين بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بوعي أو دون وعي، ما يحدث في الغرب، وفي الحضارات الأخرى، وكأننا رجع الصدى..

                  لذا ترانا نقول -دون تشبيه-: إن هـناك رجال دين، كما هـو موجود في الكنيسة، يحافظون على الأصالة والتراث ونحو ذلك.. وهناك رجال عصريون، بفكر عصري ليبرالي حر يحاولون أن يعيشوا عصرهم..

                  هذه المقارنة غير واردة أصلا، فالأمم تختلف، ومع ذلك وقعنا في المصيدة، نحن ليس لدينا رجال دين، هـناك عالم متخصص نرجع إليه في القضايا، أي: إنه كالعين السحرية في المجتمع، يمر عليه خط الإنتاج، أي شيء يريد أن يفعله المجتمع لا بد أن يمر بخط الإنتاج على هـذه العين، وهي تنظر إلى المنتج، هـل يرقى إلى مستوى المواصفات والقياسات الموضوعة المقننة أم لا؟ وذلك للمحافظة على سمعة هـذا المنتج وسمعة [ ص: 157 ] المصنع، فإذا مر بالعين السحرية هـذه، نزل إلى الأسواق واستهلك، وبذلك نحفظ سمعة المصنع.. هـذا التشبيه غير وارد حرفيا لكنني أردت فقط أن أحدد وأقرب الصورة.

                  آن لنا أن نتوقف عن اللهاث خلف الغرب وتقليد ما يحدث هـناك.. آن لنا أن نحدد وبوضوح شديد دور الفقية والعالم في المجتمع دون أدنى مجاملة، ولا دغدغة للعواطف نحو أي فئة من الفئات، آن لنا أن نحدد مواصفات من يتصدى للقيام بهذا الدور، أن نعيد النظر في كثير من المناهج التي يعد من خلالها العالم والفقيه بحيث يصبح إنسانا متكاملا قادرا على العطاء.

                  نريد اليوم نوعا من العلماء كالذين أفرزتهم الحضارة الإسلامية، وجعلتهم محببين إلى الناس، هـم يحبون الناس والناس يحبونهم، لا فجوة تفصل بينهم، لم يمسكوا بعصا ويملوا بواسطتها إرادتهم على المجتمع المسلم.. في المجتمع لا يوجد إنسان يختلف عن الآخر بالنسبة لأداء الحقوق والقيام بالواجب، الجميع سواسية بالالتزام أمام الله تعالى، لا يوجد هـناك طبقة حقوق وطبقة واجبات.. هـناك إنسان يذكروإنسان يرجع إليه..

                  ويمكن أن نذكر مثلا على هـذا: إذا أردنا أن نقيم نظاما اقتصاديا في المجتمع المسلم، لماذا نجعل الجزئية الواحدة التي ينصرف إليها الذهن بكليته هـي الفائدة (الربا) ؟ الاقتصاد الإسلامي أرحب من ذلك بكثير في مفهوماته وأسسه، لماذا نترك مطلق الحرية للشباب الإسلامي في أن يفكر ويعمل على تطوير النظام الاقتصادي؟ ثم نجمعه بالمتخصص في العقيدة والفقه، يمرر عليه هـذا الإنتاج.. هـنا خطأ، هـنا منزلق، هـنا احتمال للانزلاق، حيث يعود المتخصص إلى مراجعة ذلك من جديد للوصول إلى الأقرب لروح الإسلام.

                  آن لنا أن نستقطب المتخصصين من أبنائنا، القادرين على العطاء الجيد، والذين نتوقع منهم أيضا أن يكونوا متخصصين، لا في الفقه والعقيدة، ولا في القضايا الإسلامية البحتة ولكنهم متخصصون في مجالات أخرى، في الاقتصاد، في السياسة، في الاجتماع.. هـؤلاء نطلق يدهم، ونجعل هـناك نوعا من اللقاءات المستمرة بينهم وبين المتخصصين في القضايا الإسلامية لكي نملأ الفراغ، لم تعد هـناك إمكانية في أن يكون عالم الدين -كما هـو في العهود السابقة- موسوعيا، ملحمة ثقافية، يفهم في الاقتصاد، وفي الفلك، وفي الحشرات، وفي أمور الدنيا والدين.. لم يعد هـذا ممكنا الآن، فقد تفتت [ ص: 158 ] العلم فأصبح لكل جزء منه متخصص، ولا بد لكل واحد من هـؤلاء المتخصصين أن يدلي بدلوه في مجال تخصصه، ويترك بعد ذلك لعلماء الدين أن يقولوا: هـنا خطوط حمراء فلا تتعدوها، وما وراء ذلك فافعلوا ما شئتم.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية