الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  أسلمة المعرفة

                  ** يتفرع عن هـذه القضية قضية أخرى هـي: الدعوة إلى أسلمة المعرفة أو أسلمة العلوم، وهي كما طرحها أصحاب القضية: محاولة النظر في النتاج البشري العام في مجال العلوم الإنسانية بالذات، وتحديد المواطن التي يمكن أن تتعارض مع النظرة الإسلامية، والتي يمكن أن تتفق معها، فدعوا إلى قيام معاهد أو مؤسسات تحت عنوان: "أسلمة المعرفة" ما رأيكم في هـذه الدعوة؟ وإلى أي مدى يمكن أن تجعل المسلمين في مكان التلقي وتمنحهم القدرة على النظر إلى إنتاج الآخرين؟

                  أعترض في البداية على هـذه التسمية، وأعتقد أن في هـذا التعريف ليا للتعابير، ويجب أن نصحح مفهوم العبارة، ما معنى أسلمة؟ ماذا نقصد بأسلمة؟ نجعلها إسلامية؟ إذن الهدف واضح والتعبير خطأ، فإذا اتفقنا أن التعبير لا يعكس بالضرورة المفهوم والنية الحسنة وراءه، فإن أي جهد يبذل في هـذا المضمار يجب أن نرحب به، وأن نشجعه وندعمه، ونسعى إلى أن يأخذ دوره التطبيقي.. هـناك كثير من الاجتهادات والمحاولات التي بذلها شباب ومفكرون مخلصون ملتزمون ومؤمنون بأنه لا منقذ للبشرية -وليس للأمة المسلمة فقط- من شقوتها سوى أن تعود إلى الإسلام إيمانا وممارسة وتطبيقا، لكن المشكلة في أن هـذا الجهد، وهذا العمل الذي تراكم بمرور السنين لم يأخذ طريقه إلى التطبيق، وما ذلك إلا لوجود حلقة يبدو أنها مفقودة بين من يملك القرار والعالم في المجتمع المسلم، لم يعد -للأسف الشديد- في كثير من بقاع العالم الإسلامي صاحب القرار بالضرورة هـو الرجل الذي يعتمد في إصدار قراره على أسس علمية ومنطلقات واضحة، أصبحت القضية مرتبطة باعتبارات كثيرة، من هـنا كانت مشكلة هـذا النفر من الشباب المؤمن الملتزم، الذي نذر حياته ونفسه ليحقق أسلمة المعرفة بتعريفهم، مشكلة هـؤلاء والتحدي الأكبر الذي يواجههم هـو أن ما يتوصلون إليه لا يجد طريقه إلى التطبيق العملي الواقعي في المجتمع، ونحن هـنا لا نريد لهؤلاء الشباب أن ييأسوا، أو أن يتضايقوا إذا لم تجد أفكارهم وأبحاثهم مجالا للتطبيق -العالم لا يستطيع أن يتحقق من صحة ما ذهب إليه إلا إذا اختبر ذلك بالتطبيق العملي -معاناة هـؤلاء الشباب واضحة جدا، هـم في وضع [ ص: 163 ] لا يحسدون عليه، يريدون فعل شيء، وفعلوا أشياء يريدون أن يروا مدى انعكاساتها، أو صلاحيتها للمجتمع المسلم، وربما يحتاجون إلى جزيرة نائية، فيها مجموعة من المسلمين من مختلف المشارب، يمنحونها وتصبح حقل تجارب لهم -خيال في القضية- لكني أردت أن أوضح -بشيء من المبالغة- مدى معاناة هـؤلاء الشباب، لذلك أتمنى عليهم ألا يفقدوا الثقة فيما يفعلونه ويقومون به وأن يستمروا في مسيرتهم -مسيرة الخير- التي نحن بأمس الحاجة إليها، وأن يوثقوا صلتهم -باستخدام الأساليب الممكنة كافة- بأصحاب القرار في الدول الإسلامية على مختلف المستويات، وأن يوثقوا صلتهم أيضا بالفقهاء وعلماء الدين حتى لا يفهمهم هـؤلاء خطأ، وبالتالي يصبحون عونا لهم -لو استطاعوا استيعابهم- بدل أن يكونوا مقاومين لهم، عليهم أن يستقطبوا جميع القدرات الممكنة، ويستخدموا كل الوسائل المتوفرة لكي تنجح مسيرتهم، ولا بد أن نعاني في مرحلة البحث العلمي، ولا بد من أن نصبر حتى نصل إلى نظم نستطيع القول بأنها نظم إسلامية.. نحن نتحدث عن النظام الاقتصادي الإسلامي، وعن النظام السياسي والاجتماعي والفكري.. في ظني ليس هـناك نظام بالمعنى الحرفي لكلمة system بالإنجليزية، هـناك مبادئ عامة وأسس ومنطلقات.. آن لنا أن نترجم هـذه المبادئ -من خلال جهد هـؤلاء الشباب- إلى قوانين، وإلى عمليات تطبيقية، عندها تزداد الثقة بالنفس.

                  وتجربة البنوك الإسلامية تجربة يجب ألا تغيب عن ضمير المسلم، يجب أن نشدد من أزر من فكر فيها، ومن عمل أو لا يزال يجاهد في مضمارها، لأنها كسرت الحلقة المفرغة التي نعيش فيها، نتحدث ونتحدث، ونرفع شعارات، ونتمنى ونتطلع، ولا يوجد هـناك شيء واقعي، هـذه التجربة بما لها وما عليها يجب أن تلقى الترحيب والتشجيع والدعم، وأن نعمل على ترشيدها، وننظر إليها بعين الرضا لا بعين السخط، هـناك كثير من الناس، الذين يتحاملون عليها بغيرة دينية، وبمحبة وإخلاص، لكنهم ينظرون إليها بعين السخط، لماذا؟ حاول أن تنظر إليها بعين الرضا، حاول أن تقومها وترشدها، أن تستفيد مما تفعله، ودع العربة تنطلق..

                  ** لقد أردنا في قضية "أسلمة المعرفة" وجها آخر أيضا: مراكز الإنتاج لمثل هـذه العلوم، أو السيل المنطلق، معظمه نتاج حضارة غير إسلامية في [ ص: 164 ] نظرتها ومنطلقها ووسائلها وأهدافها، فإذا أردنا نحن أن ننظر إلى هـذا الإنتاج ونحكم عليه، ونحدد ما هـو صالح وما هـو غير ذلك، وما يتفق منه مع الإسلام وما يختلف، ونغير بعض المصطلحات في معطيات العلوم الإنسانية لتتفق مع النظرة الإسلامية والثقافية الإسلامية، ألا نجد أن ذلك إن كان مقبولا في المرحلة التمهيدية الأولى فهو في المحصلة قد لا يكون مقبولا، لأنه سيبقينا في مواقع التلقي عن الآخرين والحكم على إنتاجهم، وقد لا يحملنا إلى التحقيق بالإنتاج نفسه؟ هـذا الذي أردناه من القضية إضافة إلى نقطة أخرى، فالذي يعجز عن الإنتاج هـل يقدر على الحكم على إنتاج الأخرين؟

                  أعتقد أن هـذا التخوف في مكانه، خاصة في المرحلة النهائية وليس في مرحلة البدء، لكن هـذا لا يزعجني كثيرا، لأن الذين يتصدون لهذا الأمر من الشباب المسلم المتخصص الذي نذر نفسه وحياته لتحقيقه، لم يفعل ذلك إلا وهو ملتزم بمفاهيمه الإسلامية وتعاريفه الإسلامية، وإنه إذا استفاد مرحليا من بعض هـذه التعاريف والمصطلحات التي تحكم هـذه العلوم الإجتماعية، والتي قد تبدو لنا غير إسلامية في مفاهيمها ومعانيها، فذلك مرحلي، وسنطور هـذا المفاهيم، ونبحث عن بدائل إسلامية صحيحة وسليمة، ولا ضير في هـذا، ولا عيب في أن نستخدم بعض هـذه التعاريف والمصطلحات حتى نصل إلى الهدف، ما دامت الرؤية أمامنا واضحة، نعرف أين سنتجه، وإلى أي شيء نهدف، والمنطلقات والأسس لذلك كله.. لا أعتقد أن هـذه القضية تثير كثيرا أو تزعج كثيرا، فأنا مطمئن، ولله الحمد، إلى نوعية بعض هـؤلاء الشباب المسلم الذي نذر نفسه وحياته لهذا العمل.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية