الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 181 - 182 ] فإن أعلمه بعدمه وشرط البراءة : صح ، وهل إلا أن يفلس أو يموت ؟ تأويلان .

التالي السابق


( فإن ) أحاله على من ليس له عليه دين و ( أعلمه ) أي المحيل المحال ( بعدمه ) أي الدين بأن قاله لا دين لي على المحال عليه ، أو علم المحال عدمه من غير المحيل قاله في المدونة ، ظاهرها وإن لم يعلم المحيل علمه ورضاه بها ( وشرط ) المحيل على المحال ( البراءة ) من الدين المحال به مع الحوالة على من لا دين له عليه ورضي المحال بشرطها ( صح ) عقد الحوالة فلا يرجع المحال على المحيل عند ابن القاسم لأن للمحال ترك حقه مجانا . وروى ابن وهب في المدونة لا يرجع عليه إلا في الموت والفلس .

فإن قلت كيف تكون هذه الحوالة وشرطها ثبوت دين . قلت نزل علمه بعدمه ورضاه منزلة ثبوته ، لكن في الجملة وإلا لم يرجع المحال على المحيل إذا مات المحال عليه أو فلس اتفاقا ، مع أن فيه تأويلين أشار لهما بقوله ( وهل ) لا يرجع المحال على المحيل الذي أعلمه بعدمه وشرط عليه البراءة في كل حال ( إلا أن يفلس ) بضم التحتية وفتح الفاء واللام مشددة المحال عليه ( أو يموت ) المحال عليه فللمحال الرجوع على المحيل لشبه الحوالة حينئذ بالحمالة . فقول ابن القاسم موافق لرواية ابن وهب ، وهذا تأويل ابن رشد أو لا يرجع عليه ولو فلس المحال عليه أو مات ، فقول ابن القاسم مخالف لرواية ابن وهب ، وهذا تأويل أبي محمد في الجواب ( تأويلان ) وجمع أبو عمران بينهما بأن جواب ابن القاسم فيمن اشترط البراءة والرواية فيمن لم يشترطها ، وفهم من قوله : شرط البراءة أن له الرجوع إن لم يشترطها ، وهو قول ابن القاسم وأحرى إن اشترط المحال الرجوع فهو له عند ابن القاسم . [ ص: 183 ]

( تنبيهان ) الأول : تلخص من كلامه منطوقا ومفهوما ثلاث مسائل ، اشتراط المحيل البراءة ، واشتراط المحال الرجوع وعدم اشتراط أحدهما شيئا منهما .

الثاني : بعض مشايخي كيف صحت الحوالة حيث أعلمه بأن لا دين له على المحال ، واشترط البراءة مع قولهم لا بد فيها من ثبوت دين لازم ، وهل هذا إلا تناقض . وأجاب بعدم التناقض لأن قولهم لا بد من ثبوت دين لازم حيث لم يعلمه بعدمه ولم يشترط البراءة ، ومحل الصحة الإعلام واشتراط البراءة أفاده تت . طفي قوله فإن أعلمه بعدمه . . . إلخ ، لو قال فإن علم بعدمه كما عبر في المدونة وابن الحاجب لكان أولى ، إذ لا يشترط أن يعلمه المحيل ، والمدار على علم المحال . وجعل تت التأويلين بين قول ابن القاسم ورواية ابن وهب تبع فيه الشارح والتوضيح ، ونسبوا الوفاق لأبي محمد ، وفي ذلك كله نظر ، بل الوفاق بين قولي ابن القاسم وأشهب وهو لمحمد بن المواز كما في ابن يونس وأبي الحسن وغيرهما ، وذلك أن ابن القاسم قال لا يرجع ، وقال أشهب يرجع في الفلس والموت مع العلم وشرطه البراءة ، فقال ابن القاسم يحتمل أن يوفق بينه وبين قول ابن القاسم ، ويكون معناه لا يرجع ما لم يفلس أو يمت ، وعلى هذا تأولهما محمد ، واحتج بأنه لو دفع المحال عليه لكان له الرجوع به على المحيل .

وأما رواية ابن وهب ففي المدونة روى ابن وهب عن مالك رضي الله تعالى عنهما فيمن قال لرجل حرق صحيفتك التي لك على فلان ، واتبعني بما فيها من غير حوالة بدين له عليه فاتبعه حتى فلس الضامن ، أو مات ولا وفاء له أن للطالب الرجوع على الأول ، وإنما يثبت من الحوالة ما أحيل به على أصل دين . ابن يونس وبه أخذ سحنون .

أبو عمران جواب ابن القاسم فيمن اشترط البراءة إلى آخر ما تقدم عنه فأنت ترى التوفيق ، الأول بين قولي ابن القاسم وأشهب ، بخلاف توفيق أبي عمران فإنه بين قول ابن القاسم ورواية ابن وهب ، ومعنى قوله سابقا ، فإن أعلمه بعدمه وشرط البراءة صح ، [ ص: 184 ] أي صح عقدها حوالة لازمة ولا يرجع على المحيل ولا ينقلب حمالة ، فإن لم يعلم لم تصح وتنقلب حمالة ، قال فيها وإن أحالك على من ليس له قبله دين فليست حوالة وهي حمالة . ا هـ . وعلى هذا يتنزل كلام بعض مشايخ تت ، فمعنى قوله لا بد من ثبوت دين لازم حيث لم يعلمه ، أي لا بد من ثبوته في كونها حوالة وإلا انقلبت حمالة ، ومعنى قوله ومحل الصحة أي صحتها حوالة ولا تنقلب حمالة فليس له الرجوع على المحيل .

البناني الظاهر أن الحوالة صحيحة وإن لم يرض المحال عليه ، لكن إن رضي لزمه وإلا فلا والتأويلان ذكرهما ابن رشد في المقدمات ، ونصه واختلف إن شرط المتحمل له على الحميل أن حقه عليه وأبرأ الغريم ، فظاهر قول ابن القاسم أن الشرط جائز ولا يرجع على الغريم . وروى ابن وهب عن مالك رضي الله تعالى عنهما أنه لا يرجع عليه إلا أن يموت الحميل أو يفلس ، ثم قال فمن الناس من حمل رواية ابن وهب عن مالك في المدونة على التفليس لقول ابن القاسم فيها ، ومنهم من قال معنى ما ذهب إليه . ابن القاسم أنه لا يرجع المتحمل له على غريمه الأول إلا أن يموت أو يفلس ، ويحتمل عندي أن يؤول قول ابن القاسم على أنهما قد أبرآ الغريم جميعا من الدين جملة فابن القاسم إنما تكلم على غير الوجه الذي تكلم عليه مالك في رواية ابن وهب ، وهذا سائغ ممكن محتمل . ا هـ . فهي ثلاث تأويلات ، وعزا ابن يونس الثاني لمحمد والثالث لأبي عمران .

وقال أشهب في كتاب محمد يرجع في الفلس والموت مع العلم ، وشرط البراءة فقال ابن يونس يحتمل أن يوفق بينه وبين قول ابن القاسم بمثل التأويل الثاني ، وعليه تأوله محمد ، ولا يمكن فيه التأويل الثالث لأنه شرط البراءة كقول ابن القاسم بخلاف رواية ابن وهب ، وبما ذكرنا من كلام ابن رشد وابن يونس علم أن التوفيق الذي في كلام المصنف موجود بين قول ابن القاسم ورواية ابن وهب كما وجد بينه وبين قول أشهب خلافا لطفي في إنكاره وجوده في رواية ابن وهب والله أعلم




الخدمات العلمية