الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت منه بتطليقة ) وقال الشافعي : تبين بتفريق القاضي [ ص: 192 ] لأنه مانع حقها في الجماع فينوب القاضي منابه في التسريح كما في الجب والعنة . ولنا أنه ظلمها بمنع حقها [ ص: 193 ] فجازاه الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضي هذه المدة وهو المأثور عن عثمان وعلي والعبادلة الثلاثة وزيد ابن ثابت رضوان الله عليهم أجمعين ، وكفى بهم قدوة ، ولأنه كان طلاقا في الجاهلية فحكم الشرع بتأجيله إلى انقضاء المدة [ ص: 194 ] ( فإن كان حلف على أربعة أشهر فقد سقطت اليمين ) لأنها كانت مؤقتة به [ ص: 195 ] ( وإن كان حلف على الأبد فاليمين باقية ) لأنها مطلقة ولم يوجد الحنث لترتفع به إلا أنه لا يتكرر الطلاق قبل التزوج لأنه لم يوجد منع الحق بعد البينونة ( فإن عاد فتزوجها عاد الإيلاء ، فإن وطئها وإلا وقعت بمضي أربعة أشهر تطليقة أخرى ) [ ص: 196 ] لأن اليمين باقية لإطلاقها ، وبالتزوج ثبت حقها فيتحقق الظلم ويعتبر ابتداء هذا الإيلاء من وقت التزوج .

( فإن تزوجها ثالثا عاد الإيلاء ووقعت بمضي أربعة أشهر أخرى إن لم يقربها ) لما بيناه ( فإن تزوجها بعد زوج آخر لم يقع بذلك الإيلاء طلاق ) لتقيده بطلاق هذا الملك وهي فرع مسألة التنجيز الخلافية وقد مر من قبل [ ص: 197 ] ( واليمين باقية ) لإطلاقها وعدم الحنث ( فإن وطئها كفر عن يمينه ) لوجود الحنث

التالي السابق


( قوله وقال الشافعي : تبين بتفريق القاضي ) لم يقل الشافعي تبين ، بل قال يقع رجعيا سواء طلق الزوج بنفسه أو الحاكم ، وبه قال مالك وأحمد . ورجح بأن الواقع طلاق والطلاق يعقب الرجعة إلا الثابت بالنص .

والجواب منع كلية الكبرى ، وتقدم وجه دفعه في الكنايات ، غير أنه يستدعي سببا ، والسبب هنا أنه وقع للتخلص من الظلم ، والرجعي لا يفيد ذلك لأنه بسبيل من أن يردها إلى عصمته ويعيد الإيلاء فتعين البائن لتملك نفسها وتزول سلطنته عليها جزاء لظلمه مع ورود الآثار في ذلك كما ستقف على انتهاضها بإثباته . ثم الخلاف في موضعين : أحدهما أن الفيء عنده يكون قبل مضي المدة ويكون بعدها وعند مضيها يوقف إلى أن يفيء أو يطلق لقوله تعالى { فإن فاءوا } والفاء للتعقيب فاقتضى جواز الفيء بعد المدة .

وعندنا الفيء في المدة لا غير . والجواب أن الفاء لتعقيب المعنى في الزمان في عطف المفرد كجاء زيد فعمرو ، وتدخل الجمل لتفصيل مجمل قبلها وغيره ، فإن كانت للأول نحو { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } { ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي } ونحو : توضأ فغسل وجهه ويديه ورجليه ومسح رأسه فلا يفيد ذلك التعقيب ، بل التعقيب الذكري بأن ذكر التفصيل بعد الإجمال ، وإن كانت لغيره فكالأول كجاء زيد فقام عمرو ، وكل من التعقيبين جائز الإرادة في الآية ; المعنوي بالنسبة إلى الإيلاء ، { فإن فاءوا } أي بعد الإيلاء ، والذكري فإنه لما ذكر تعالى أن لهم من نسائهم أن يتربصن أربعة أشهر من غير بينونة مع عدم الوطء كان موضع تفصيل الحال في الأمرين ، فقوله تعالى { فإن فاءوا } إلى قوله { سميع عليم } .

واقع بهذا المعرض فيصح كون المراد { فإن فاءوا } : أي رجعوا عما استمروا عليه بالوطء في المدة تعقيبا على الإيلاء التعقيب الذكري أو بعدها تعقيبا على التربص { فإن الله غفور } لما حدث منهم من اليمين على الظلم وعقد القلب على ذلك بسبب الفيئة التي هي توبة ، أو غفور للحنث في اليمين إن كان برضاها لغرض تحصين ولد عن الغيل ونحوه رحيم بشرع الكفارة كافية عنه ، فنظرنا فإذا قراءة ابن مسعود { فإن فاءوا فيهن } ترجح أحد الجائزين وهو كون الفيء في المدة ، إما باعتبار أن الأصل توافق القراءتين شاذتين كانتا أو إحداهما شاذة فتنزل تفسيرا للمراد بالأخرى ، وإما باعتبار أنها تستقل بإثبات كونه في المدة إذ لا تعارض القراءة المشهورة لأنها أعم من كونها فيها أو بعدها بناء على أنها حجة عندنا ، وإن أبى الخصم ورد المختلف إلى المختلف يتم إذا أثبت الأصل ، ولا شك أن القراءة الشاذة إنما يقرؤها الراوي خبرا عن صاحب الوحي قرآنا فانتفاء القرآنية لعدم الشرط وهو التواتر انتفاء الأخص ، فإن القرآنية أخص من الخبرية ، وانتفاء الأخص لا يستلزم انتفاء الأعم ، فدار الأمر بين كونها قرآنا أو خبرا عن صاحب الوحي ، وذلك دوران بين الحجية على وجه وبينها على وجه آخر لا بين الحجية وعدمها .

فإن قيل : حاصل المفاد بها جواز الفيء في المدة .

ونحن لا ننكر ذلك ، وإنما الكلام في أن له أن يفيء بعدها ، وتنحل يمينه إذا لم يفئ فيها أو لا بل بمجرد مضيها وقع الطلاق فلا يتمكن من الفيء أثبتناه ، والقراءة المذكورة لا تنفيه . قلنا : ليس كذلك فإنه تعالى جعل حكم الإيلاء على هذه القراءة أن يفيء في المدة أو يثبت الطلاق بتطليقه أو تطليق القاضي على الخلاف [ ص: 192 ] هذا هو المفاد بقوله تعالى { فإن فاءوا } فيهن فكذا { وإن عزموا الطلاق } فكذا على ما عرف من التأويل لأن الترديد مأخوذ في كل قسم منه نقيض الآخر ، أي وإن عزموا الطلاق . فلم يفيئوا فيها وهو لازم فإنهم لو فاءوا فيهن لم تبق عزيمة الطلاق فلزم بالضرورة أن لا فيء إلا في المدة .

الثاني : أن بمضي المدة تقع الفرقة بينهما طلاقا بائنا وعنده لا يكون إلا بطلاقه أو بطلاق القاضي لقوله تعالى { وإن عزموا الطلاق } فلو كان الطلاق يثبت بمجرد مضي المدة لم يتصور العزم عليه ، ولأن النص يشير إلى أنه مسموع وهو قوله { فإن الله سميع عليم } والوجه الذي ذكره المصنف وحاصله إلحاق المولي بالعنين في حكم هو إلزامه بالطلاق ، فإن لم يفعل طلق عليه بجامع أنه امتنع عن الإمساك بمعروف فيؤمر بالتسريح بإحسان ، وإلا كان موقعا من غير إيقاع .

والجواب : قوله لا يتصور العزم عليه لو وقع بمجرد انقضاء المدة ممنوع ، بل إذا فرض وقوعه عندها كان عزيمة الطلاق عزمه على الاستمرار على الترك حتى يتم ، فمعنى فإن عزموا الطلاق فإن استمروا على ذلك الترك حتى تنقضي المدة { فإن الله سميع } بما يقارن هذا الترك والاستمرار من المقاولة والمجادلة وحديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان عليم بما استمروا عليه من الظلم ، وفيه معنى الوعيد على ذلك ، واندرج في هذا جواب الثاني . وعن الأخير بأن العنين ليس بظالم فناسبه التخفيف عليه ولذا كان أجله أكثر ، والمولي ظالم يمنع حقها فيجازى بوقوعه بنفس الانقضاء ، ولا نسلم أنه بلا إيقاع بل الزوج بالإيلاء موقع ، فقد كان في الجاهلية تنجيزا فجعله الشارع مؤجلا .

أو نقول : جاز أن يحكم بوقوعه عند استمرار ظلمه هذه المدة من غير لفظ الطلاق ، وهذا لأن حقيقة الطلاق إنما هي رفع القيد الثابت شرعا بالنكاح ، ولفظ أنت طالق الآلة التي يثبت هو عندها شرعا ولم يقصر الشرع ثبوته على اللفظ ، ألا يرى أنه حكم بثبوته عند كتابته على ما تقدم وليست الكتابة لفظا فلا بعد أن يحكم به عند ظلمه بمنعه حقها هذه المدة . لا يقال : كيف يكون ظالما بذلك وهو بوطئه واحدة لا يطلق عليه القاضي ولا يلزمه بغيرها فهو ليس بظالم .

لأنا نقول : ذلك في الحكم ، فأما في الديانة فيما بينه وبين الله تعالى فعليه أن يجامعها أحيانا ليعفها ، فإن أبى كان عاصيا . والنصوص من السنة والآثار تفيد ذلك ، لكن بقي أن يقال هذا كله تجويز لوقوعه كذلك ونقول بجوازه ، لكن الكلام فيما هو الثابت بمقتضى دلالة الدليل وهو ما قلنا ، فإن الآية وإن صح فيها كون العزم على الطلاق بالمعنى الذي قلتم لكن الظاهر منها ما قلنا . والجواب أن قراءة ابن مسعود لما أفادت أن لا فيء بعد المدة لزم انتفاء قولكم من إلزامكم بأحد الأمرين من الفيء أو الطلاق فثبت أن المراد بها ما قلنا ، وإلا لزم إحداث قول ثالث وهو إلزامه بعد المدة بأمر واحد وهو الطلاق ، وهذا التقرير هو محمل استدلال المصنف حيث قال : ولنا أنه ظلمها بمنع حقها فجازاه الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضي هذه المدة ، وإلا فظاهره أنه مصادرة لأنه استدلال بعين محل النزاع كأنه قال : فجازاه بذلك بالنص .

وتقريره أن القراءة مفسرة بكون الفيء في المدة بقراءة أخرى إلى آخر ما ذكرنا ، واحتج أيضا بآثار وهي ما روى الدارقطني قال : حدثنا أبو بكر الميموني قال : ذكرت لأحمد بن حنبل حديث عطاء الخراساني عن عثمان يعني به ما سنذكره مما يوافق مذهبنا قال : لا أدري ما هو قد روي عن عثمان خلافه .

قيل له من رواه ؟ قال حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن عثمان ، وما روى مالك في الموطإ [ ص: 193 ] عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول : إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه الطلاق ، فإن مضت الأربعة الأشهر توقف حتى يطلق أو يفيء . وما روى البخاري عن ابن عمر بسنده أنه كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله تعالى لا تحل بعد ذلك الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم بالطلاق كما أمر الله تعالى . وقال : أي البخاري : قال لي إسماعيل بن أبي أويس : حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر قال : إذا مضت أربعة أشهر توقف حتى يطلق ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق انتهى .

وقال الشافعي : حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال : أدركت بضعة عشر رجلا من الصحابة كلهم يقول يوقف المولي . وقال بعضهم : روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال : سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر .

قلنا : الآثار الأربعة الأول معارضة . أما الأول فيما روى عبد الرزاق حدثنا معمر عن عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت كانا يقولان في الإيلاء : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة واحدة وهي أحق بنفسها وتعتد عدة المطلقة . وهذا أولى لأن سنده جيد موصول ، بخلاف ذاك فإن حال رجاله لا يعرف إلى حبيب ، وهو أيضا أعضله ، ولا يعلم أن طاوسا أخذ عن عثمان فهو منقطع .

وأما الثاني فيما أخرج عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن قتادة أن عليا وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم قالوا : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة وهي أحق بنفسها وتعتد عدة المطلقة ، وكل منهما مرسل ، فإن رواية محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم مرسلة ، وكذا قتادة وهما متعاصران ، وتوفي قتادة سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة ومائة على اختلاف الأقوال ، وكذا توفي محمد بن علي سنة سبع عشرة في قول . وقال غير واحد : سنة ثماني عشرة ، وقيل سنة أربع عشرة ، وقيل خمس عشرة ، وقيل ست [ ص: 194 ] عشرة فاعتدلا في هذا القدر . ثم المثبت من اشتهار قتادة بعظم الحفظ والإتقان والمحافظة على الأداء كما سمع بعينه أكثر وأشهر من المثبت لمحمد . قال عبد الرزاق عن معمر : جاء رجل إلى ابن سيرين فقال : رأيت حمامة التقمت لؤلؤة فخرجت عنها أعظم مما دخلت ، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت منها أصغر مما دخلت ، ورأيت أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت كما دخلت سواء .

فقال له ابن سيرين : أما التي خرجت أعظم مما دخلت فذاك الحسن يسمع الحديث فيجوده بمنطقه ثم يصل فيه من مواعظه . وأما التي خرجت أصغر فذاك محمد بن سيرين ينتقص منه ويسأل . وأما التي خرجت كما دخلت فهو قتادة وهو أحفظ الناس انتهى .

وفي تراجمه العجائب من حفظه . وأما الثالث والرابع فيما أخرجه ابن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا : إذا آلى فلم يفئ حتى مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة . ورجال هذا السند كلهم أخرج لهم الشيخان فهم رجال الصحيح فينتهض معارضا ، ولم يبق إلا قول من قال بأن أصح الحديث ما روي في كتاب البخاري ومسلم ، ثم ما كان على شرطهما إلى آخر ما عرف ، وقدمنا في كتاب الصلاة أنه تحكم محض لأنه إذا كان الغرض أن المروي على نفس الشرط المعتبر عندهما فلم يفته إلا كونه لم يكتب في خصوص أوراق معينة ولا أثر لذلك .

وقول البخاري : أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر لم يوافق عليه فقد قال غيره غيره . وقال المحققون : إن ذلك يتعذر الحكم به ، وإنما يمكن بالنسبة إلى صحابي وبلد فيقال : أصحها عن ابن عمر مالك عن نافع عنه ، وعن أبي هريرة : الزهري عن سعيد بن المسيب عنه ، وأصح أسانيد الشاميين الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة ، وأصح أسانيد اليمانيين معمر عن همام عن أبي هريرة ونحو ذلك ، وأحسن من هذا أيضا الوقوف على اقتحام هذه ، فإن في خصوص الوارد ما قد يلزم الوقوف عن ذلك ، نعم قد يكون الراوي المعين أكثر ملازمة لمعين من غيره فيصير أدرى بحديثه وأحفظ له منه على معنى أكثر إحاطة بأفراد متونه ، وأعلم بعادته في تحديثه وعند تدليسه إن كان وبقصده عند إبهامه وإرساله ممن لم يلازمه تلك الملازمة ، أما في فرد معين فرض أن غيره ممن هو مثله في ملكة النفس من الضبط أو أرفع سمعه منه فأتقنه وحافظ عليه كما يحافظ على سائر محفوظاته يكون ذلك مقدما عليه في روايته بمعارضه ما هو إلا محض تحكم ، فإن بعد هذا الفرض لم يبق زيادة الآخر إلا بالملازمة ، وأثرها الذي يزيد به على الآخر إنما هو بالنسبة إلى مجموع متونه لا بالنسبة إلى خصوص متن ، وحينئذ فناهيك بسعيد بن جبير ، وقد روى عن ابن عمر وابن عباس خلافه .

وأما رواية الشافعي عن سليمان فحاصلها أن قول جماعة من الصحابة كذلك ، وكذا ما ذكر عن سهيل ، ولم يتبين من هم فيجوز كون بعضهم ممن تعارضت عنه الروايات مع اختلاف طبقاتهم في علو الحال والفقه كما أسمعناك عمن ذكروا ، وكون من ذهب إلى خلاف المروي عنهم أفقه وأعلى منصبا ، ونحن قد أخرجنا ما قلناه عن الأكابر مثل عثمان وعلي بناء على ترجيح ما عارضنا [ ص: 195 ] به ، وكذا عن زيد بن ثابت وهو من أكابرهم ممن أخذ ابن عباس رضي الله عنهم بركابه حين ركب وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ، وكذا عن ابن عباس فيما قدمنا ، وكذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

أخرج الدارقطني عن ابن إسحاق : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة ، وهو أملك بردها ما دامت في عدتها . وابن إسحاق صرح فيه بالتحديث . وأخرج عبد الرزاق : حدثنا معمر وابن عيينة عن أيوب عن أبي قلابة قال : آلى النعمان من امرأته وكان جالسا عند ابن مسعود فضرب فخذه وقال : إذا مضت أربعة أشهر فاعترف بتطليقة .

وأخرج نحو مذهبنا عن عطاء وجابر بن زيد وعكرمة وسعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول . وأخرج الدارقطني نحوه عن ابن الحنفية والشعبي والنخعي ومسروق والحسن وابن سيرين وقبيصة وسالم وأبي سلمة وهذا ترجيح عام ، وهو أن كل من قال من الصحابة بالوقوع بمجرد المضي يترجح على قول مخالفه لأنه لم يكن بد من كونه محمولا على السماع ، لأنه خلاف ظاهر لفظ الآية ، فلولا أنه مسموع لهم لم يقولوا به على خلافه ، ومن قال كقولهم لم يظهر في قولهم مثل ذلك لأنهم مع المتبادر من اللفظ فلا يلزم حمل قولهم على سماع ، واندرج في هذا من روى عنهم الشافعي من الصحابة وسهيل ، على أنه ليس في اللفظ المروي لسهيل حجة لأحد الفريقين أصلا ( قوله وإن كان حلف على الأبد ) هو أن يصرح بلفظ الأبد أو يطلق فيقول لا أقربك مقتصرا إلا أن تكون حائضا فليس بمول أصلا لأنه ممنوع بالحيض فلا يضاف المنع إلى اليمين ، وكذا لا أقربك حتى تقوم الساعة وحتى يلج الجمل في سم الخياط يكون موليا .

( قوله إلا أنه لا يتكرر ) استثناء من لازم قوله فاليمين باقية فيما يتبادر فإنه يتبادر منه أن يقع أخرى عند مضي أربعة أشهر أخرى إذا كانت لم تنقض عدتها بعد ، وبه قال أبو سهل الشرغي ، وعليه مشى المرغيناني وصاحب المحيط لأن حاصل اليمين المطلقة كلما مضت أربعة أشهر لم أجامعك فيها فأنت طالق ، ولو صرح بذلك كان الحكم كذلك ، فكذا إذا صرح بملزومه ، والمختار قول الكرخي إنه لا يقع إلا إذا تزوجها ، وعليه مشى في البدائع وتحفة الفقهاء وشرحي الإسبيجابي والجامع لأن وقوع الطلاق جزاء الظلم ، وقد تحقق في الأول بالحلف على ترك قربانها حال قيام العصمة فانعقد إيلاء وثبت حكمه من الوقوع عند مضي الأشهر جزاء [ ص: 196 ] لظلمه ، وليس للمبانة حق الوطء فلا ينعقد الإيلاء ثانيا ابتداء في حقها ، فلا يلزم حكم البر فيه ، بخلاف ما لو آلى حال قيام النكاح ثم أبانها تنجيزا ثم مضت مدة الإيلاء وهي في العدة حيث تقع الثانية لصحة الإيلاء لصدوره في حال يتحقق به ظلمه فيكون إذا صح بمنزلة تعليق البائن ، والبائن المعلق يلحق البائن المنجز في العدة على ما أسلفناه في ذيل الكنايات .

وبهذا التقرير يتضح لك الجواب عن قول أبي سهل : إنه كقوله كلما مضت أربعة أشهر فأنت طالق ، وذلك لأن قوله والله لا أقربك أربعة أشهر إنما صار بمنزلة قوله إذا مضت أربعة أشهر فأنت طالق إذا انعقد إيلاء شرعيا مستعقبا لحكمه من وقوع الطلاق بتقدير البر ، وانعقاده إيلاء إنما يكون حال كونه ظالما لأن ذلك الحكم هو جزاؤه ، فإذا لم يكن ظالما كان الثابت مجرد اليمين على ترك قربانها وهو أعم من الإيلاء فلا يستلزمه فيبقى يمينا دون إيلاء فلا يصير كقوله كلما مضت أربعة أشهر فأنت طالق فيوفر عليه حكم اليمين المجردة وهو الكفارة بالوطء ، كما لو قال لأجنبية والله لا أقربك أبدا ثم تزوجها فلم يطأها حتى مضت أربعة أشهر لا تطلق ، ولو وطئها كفر للحنث كذا هذا ، ولذا قلنا إذا تزوجها بعد زوج آخر بعد وقوع الثلاث بواسطة تكرر النكاح في الإيلاء المطلق يلزمه الكفارة لو وطئ وإن لم يقع الطلاق لو مضت المدة دون وطء .

( قوله ويعتبر ابتداء هذا الإيلاء من وقت التزوج ) أطلق في ذلك وكذا في الكافي ، وقيده في النهاية والغاية تبعا للتمرتاشي والمرغيناني بما إذا كان التزوج بعد انقضاء العدة ، فأما إن كان فيها اعتبر ابتداؤه من وقت الطلاق ، ومثله لو آلى من زوجته مؤبدا ثم طلقها واحدة بائنة لا يبطل الإيلاء ، فإن مضت له أربعة أشهر وهو في العدة وقعت عليها طلقة وإن مضت بعد انقضائها لا يقع شيء ، فإن تزوجها بعد الانقضاء عاد الإيلاء ، ويعتبر ابتداؤه من وقت التزوج فلا يحتسب بما مضى قبله ، فلو تزوجها في العدة احتسب به . قال في شرح الكنز : وهذا لا يستقيم إلا على قول من قال إن الطلاق يتكرر قبل التزوج وقد بينا ضعفه انتهى .

فالأولى اعتبار الإطلاق كما في الهداية ( قوله لتقيده بطلاق هذا الملك ) لأن الغرض منه المنع وذا إنما يحصل ببطلان حل يخاف بطلانه ، ولا يخاف بطلان حل سيوجد جديدا بعد التزوج بغيره لأنه غالب العدم على وزان ما قدمنا في مسألة التنجيز ، وهو ما إذا علق طلاقها بالدخول [ ص: 197 ] مثلا ثم نجز الثلاث فتزوجت بغيره ثم أعادها فدخلت لا تطلق خلافا لزفر فهذه فرع تلك وفيها خلاف زفر كتلك ، وكذا لو آلى من زوجته ثم طلقها ثلاثا بطل الإيلاء ، حتى لو مضت أربعة أشهر وهي في العدة لم يقع الطلاق خلافا لزفر ، ولو تزوجها بعد زوج آخر في الإيلاء المؤبد لا يعود الإيلاء خلافا له ، ولو بانت بالإيلاء مرة أو مرتين فتزوجت بغيره ثم عادت إليه عادت بثلاث تطليقات ، وتطلق كلما مضى عليها أربعة أشهر لم يجامعها فيها حتى تبين بثلاث ، وفيه خلاف محمد وهي مبنية على مسألة الهدم وقد مرت




الخدمات العلمية