الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 502 ] ( ومن قال لأمته إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية ولا يدري أيهما ولد أولا عتق نصف الأم ونصف الجارية والغلام عبد ) لأن كل واحدة منهما تعتق في حال وهو ما إذا ولدت الغلام أول مرة [ ص: 503 ] الأم بشرط والجارية لكونها تبعا لها ، إذ الأم حرة حين ولدتها ، وترق في حال وهو ما إذا ولدت الجارية أولا لعدم الشرط فيعتق نصف كل واحدة منهما وتسعى في النصف ، أما الغلام يرق في الحالين فلهذا يكون عبدا ، [ ص: 504 ] وإن ادعت الأم أن الغلام هو المولود أولا وأنكر المولى والجارية صغيرة فالقول قوله مع اليمين لإنكاره شرط العتق ، فإن حلف يعتق واحد منهم ، وإن نكل عتقت الأم والجارية ; لأن دعوى الأم حرية الصغيرة معتبرة لكونها نفعا محضا فاعتبر النكول في حق حريتهما فعتقتا ، ولو كانت الجارية كبيرة ولم تدع شيئا والمسألة بحالها عتقت الأم بنكول المولى خاصة دون الجارية ; لأن دعوى الأم غير معتبرة في حق الجارية الكبيرة ، وصحة النكول تبتنى على الدعوى فلم يظهر في حق الجارية [ ص: 505 ] ولو كانت الجارية الكبيرة هي المدعية لسبق ولادة الغلام والأم ساكتة يثبت عتق الجارية بنكول المولى دون الأم لما قلنا ، والتحليف على العلم فيما ذكرنا لأنه استحلاف على فعل الغير ، وبهذا القدر يعرف ما ذكرنا من [ ص: 506 ] الوجه في كفاية المنتهى

التالي السابق


( قوله ومن قال لأمته إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية ولا يدري أيهما ولد أولا عتق نصف الأم ) وتسعى في قيمة نصفها ( ونصف الجارية ) وتسعى في النصف ( والغلام عبد ) لأن كل واحدة من الأم والجارية تعتق في حال وهو ما إذا ولدت الغلام أولا [ ص: 503 ] فعتق الأم لوجود شرط عتقها والجارية لكونها تبعا للأم في الرق والحرية وقد ولدتها وهي حرة وترق في حال وهو ما إذا ولدت الجارية أولا لعدم الشرط ، فإذا عتقتا في حال دون حال فيعتق نصف كل منهما ، والغلام عبد في الحالين لأنه ولد وأمه قنة فإنها إنما تعتق بعد ولادتها إياه أولا لأن ولادته شرط عتقها والمشروط يتعقب الشرط وهذا الجواب كما ترى في الجامع الصغير من غير خلاف فيه .

والمذكور لمحمد في الكيسانيات في هذه المسألة أنه لا يحكم بعتق واحد منهم لأنا لم نتيقن بعتقه واعتبار الأحوال بعد التيقن بالحرية ، ولا يجوز إيقاع العتق بالشك ، فعن هذا حكم الطحاوي بأن محمدا كان أولا مع أبي حنيفة وأبي يوسف ثم رجع .

وفي النهاية عن المبسوط أن هذا الجواب ليس جواب هذا الفصل بل في هذا الفصل لا يحكم بعتق واحد منهم ولكن يحلف المولى بالله ما يعلم أنها ولدت الغلام أولا ،

فإن نكل فنكوله كإقراره ، وإن حلف فكلهم أرقاء ، وأن جواب هذا الفصل إنما هو فيما إذا قال : إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت حرة ، وإن كان جارية فهي حرة فولدتهما ولا يدري الأول فالغلام رقيق والابنة حرة وتعتق نصف الأم ، ولا شك أن هذا ليس جواب الكتاب ; لأن في هذه الصورة يعتق جميع الجارية على كل حال لأنها إن ولدت الجارية أولا عتقت بالشرط ، وإن ولدت الغلام أولا عتقت تبعا للأم .

وأما انتصاف عتق الأم فلأنها تعتق في ولادة الغلام أولا وترق في الجارية ، وجواب الكتاب عتق نصفها مع نصف الأم . وصحح في النهاية ما في الكيسانيات لأن الشرط الذي لم يتيقن وجوده إذا كان في طرف واحد [ ص: 504 ] كان القول قول من أنكر وجوده ، كما إذا قال إن دخلت غدا فأنت حر فمضى الغد ولا يدري أدخل أم لا للشك في شرط العتق ، فكذا وقع الشك في شرط العتق وهو ولادة الغلام أولا ، وأما إذا كان الشرط مذكورا في طرفي الوجود والعدم كان أحدهما موجودا لا محالة فحينئذ يحتاج إلى اعتبار الأحوال .

فإن قلت : المفروض في صورة الكتاب تصادقهم على عدم علم المتقدم والمتأخر فكيف يحلف ولا دعوى ولا منازع ؟ قلنا : هو محمول على دعوى من خارج حسبة عتق الأمة أو بنتها لوجود الشرط ، وقد عرف أن الأمة لو أنكرت العتق وشهد به تقبل ، فعلى هذا جاز أن يدعي رجل حسبة إذا لم تكن بينة ليحلف لرجاء نكوله ، هذا ولكن المذكور في المبسوط في تعليله صرح بأن الأم تدعي العتق والمولى ينكر والقول للمنكر مع يمينه ، فأفاد أن ذلك في صورة دعوى الأم وهي غير هذه الصورة التي في الكتاب .

واعلم أن ما ذكر في النهاية من ترجيح ما في الكيسانيات حقيقته إبطال قول أبي حنيفة وأبي يوسف مع أنه لم ترد عنهما رواية شاذة تخالف ذلك الجواب .

واستدلاله بأن الشرط الكائن في طرف واحد إلخ قد ينظر فيه بأن ذلك في الشرط الظاهر لا الخفي ولهذا قيد في المبسوط حيث قال إذا قال إن فعلت كذا فأنت حر ، وذلك من الأمور الظاهرة كالصوم والصلاة ودخول الدار فقال العبد فعلت لا يصدق إلا ببينة ، بخلاف قوله إن كنت تحبيني إلخ ، فيمكن أن تكون الولادة من الأمور التي ليست ظاهرة فيوجب الشك فيها اعتبار الأحوال فيعتق نصف الأم كما في الجامع ( قوله وإن ادعت الأم أن الغلام هو المولود أولا وأنكر المولى والجارية صغيرة فالقول قوله مع اليمين ) بالله ما يعلم أن الغلام ولد أولا ( لإنكاره شرط العتق فإن حلف لم يعتق واحد منهم ، وإن نكل عتقت الأم والجارية ) معا ( لأن دعوى الأم حرية الصغيرة ) تثبت في ضمن دعواها حرية نفسها لأنها نفع محض مع ثبوت ولايتها عليها في الجملة وعجز الصغيرة عن دعواها لنفسها فاعتبر نكوله في حق حريتهما فعتقتا ( فلو كانت الجارية كبيرة ولم تدع شيئا ) من الحرية لنفسها ( وباقي المسألة بحاله ) يعني ولدتهما فادعت الأم تقدم الغلام ، وأنكر المولى والجارية بالغة فحلف فنكل عتقت الأم خاصة بنكوله لأن دعوى الأم حريتها غير معتبرة في الجارية الكبيرة لأن الدعوى عن الغير إنما تصح بولاية أو إنابة وهما منتفيتان عن الكبيرة فلا تتضمن دعوى الأم حرية نفسها دعواها حرية البنت .

فإن قيل : إذا ثبت عتق الأم ينبغي أن تثبت حرية بنتها لأنه لازم له فالإقرار بحريتها إقرار بحرية الأخرى . أجيب بمنع كون عتق الأم بالنكول عتقا بوجود الشرط لجواز كونه بذلا لماليتها من المولى ليترك الحلف أو إقرارا بحريتها بدون ذلك الشرط فلا يوجب عتق البنت ، وبأن النكول جعل إقرارا على قولهما بطريق الضرورة ، ولهذا لا يثبت العتق بمجرد النكول قبل القضاء ، ولهذا قال محمد فيمن قال لغيره : أنا كفيل بكل ما يقر لك به فلان فادعى المكفول له على فلان مالا فأنكر فحلف فنكل [ ص: 505 ] يقضى عليه بالمال ولا يصير الرجل كفيلا ، ولو كان إقرارا من كل وجه صار كفيلا ( قوله ولو كانت الجارية الكبيرة هي المدعية لسبق ولادة الغلام والأم ساكتة والباقي بحاله ثبت عتق الجارية بنكول المولى دون الأم لما قلنا ) في أن دعوى الأم حرية نفسها غير معتبرة في حق الجارية من عدم صحة الدعوى والنكول يبنى على صحة الدعوى .

( قوله وبهذا القدر يعرف ما ذكرنا في كفاية المنتهى من الوجوه الباقية ) وهي ما إذا اتفقوا على أن ولادة الغلام أولا واتفقوا على أن ولادة الجارية أولا فلا يعتق أحد في الثاني ويعتق كل الأم والجارية في الأول ، وبهما تتم الأوجه للمسألة ستة .



[ فرع ]

في المحيط : لو قال إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت حرة ، وإن كان جارية ثم غلاما فهما حران فولدت غلاما وجاريتين ولا يعلم الأول عتق نصف الأم ونصف الغلام وربع كل واحدة من الجاريتين ، أما الأم فلأنها تعتق في حال دون حال وهو رواية ، وفي عامة الروايات يجب أن يعتق ثلثها لأنها تعتق في حال وترق في حالين بأن كانت ولادة إحدى الجاريتين أولا ، وأما الغلام فإنه يعتق في حال بأن ولدت إحدى الجاريتين أولا ، ويرق في حال بأن ولدت الغلام أولا ، وأما الجاريتان فيعتق من كل ربعها في عامة الروايات لأن إصابة الحرية بجهتين متعذر لأن الشخص إذا عتق تبعا للأم لا يتصور أن يعتق بعتق نفسه ، ومتى عتق بعتق نفسه لا يعتق تبعا للأم ، فلا بد من إلغاء إحدى الجهتين فألغينا إصابة العتق من جهة الأم ، واعتبرنا الإصابة بعتق أنفسهما لأنهما أقل وهو المتيقن ، فإن كانت ولادة الغلام أولا لا يعتقان بعتق أنفسهما ، وإن كانت ولادة الجارية أولا تعتق الأخيرة بعتق نفسها فتثبت لهما حرية في حال دون حال فيثبت نصفه بينهما .

وقال أبو عصمة : ينبغي أن يعتق من كل ثلاثة أرباعها لأن الغلام لو كان أولا تعتق الأم فتعتق الجاريتان بعتقها ، ولو كانت إحدى الجاريتين أولا ثم الغلام عتقت الجارية الأولى والأخرى رقيقة فكان لهما عتق ونصف بينهما واختار شمس الأئمة [ ص: 506 ] قول أبي عصمة وقال : هو الذي يوافق ما تقدم .




الخدمات العلمية