الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 469 ] ويرجع المعتق بما ضمن على العبد لأنه قام مقام الساكت بأداء الضمان وقد كان له ذلك بالاستسعاء فكذلك للمعتق ولأنه ملكه بأداء الضمان ضمنا فيصير كأن الكل له وقد عتق بعضه فله أن يعتق الباقي أو يستسعي إن شاء ، والولاء للمعتق في هذا الوجه لأن العتق كله من جهته حيث ملكه بأداء الضمان . وفي حال إعسار المعتق إن شاء أعتق لبقاء ملكه ، وإن شاء استسعى لما بينا ، والولاء له في الوجهين لأن العتق من جهته ، ولا يرجع المستسعي على المعتق بما أدى بإجماع بيننا لأنه يسعى لفكاك رقبته أو لا يقضي دينا على المعتق إذ لا شيء عليه لعسرته ، بخلاف المرهون إذا أعتقه الراهن المعسر لأنه يسعى في رقبة قد فكت أو يقضي دينا على الراهن فلهذا يرجع عليه . وقول الشافعي رحمه الله في الموسر كقولهما . وقال في المعسر : يبقى نصيب الساكت على ملكه يباع ويوهب لأنه لا وجه إلى تضمين [ ص: 470 ] الشريك لإعساره ولا إلى السعاية لأن العبد ليس بجان ولا راض به ، ولا إلى إعتاق الكل للإضرار بالساكت فتعين ما عيناه . قلنا : إلى الاستسعاء سبيل لأنه لا يفتقر إلى الجناية بل تبتنى السعاية على احتباس المالية فلا يصار إلى الجمع بين القوة الموجبة للمالكية والضعف السالب لها في شخص واحد .

التالي السابق


وقوله ( ضمنا ) جواب عن سؤال هو أن معتق البعض كالمكاتب وهو لا يقبل النقل من ملك إلى ملك ، فأجاب بأن ذلك في الملك قصدا حتى لو باع الساكت نصيبه من المعتق لا يجوز عند أبي حنيفة لأنه تمليك قصدا ، ولا يلزم من عدم الثبوت قصدا عدمه ضمنا ( والولاء للمعتق في هذا الوجه لأن العتق كله من جهته ; لأنه ملكه بالضمان ) غايته أن بعضه ببدل وهو لا يمنع الولاء ( و ) أما ( في حال إعسار المعتق إن شاء أعتق لبقاء ملكه وإن شاء استسعى لما بينا ) من احتباس ملكه ( والولاء له ) أي للساكت : أي مشتركا بينه وبين المعتق ( في الوجهين ) أي في الإعتاق والاستسعاء ( ولا يرجع المستسعى ) على المفعول : أي العبد ( على المعتق بشيء بإجماع بيننا ) خلافا لابن أبي ليلى فإنه يرجع عنده على المعتق إذا أيسر ، وإنما لا يرجع بالاتفاق ، أما على قوله فإنه يسعى لفكاك رقبته ، وأما على قولهما فلأنه إن لم يكن ساعيا لفكاك رقبته فليس هو بسعايته يقضي دينا على المعتق إذ لا شيء على المعتق إذا كان معسرا ( بخلاف ) العبد ( المرهون إذا أعتقه الراهن المعسر لأنه يسعى في رقبة قد فكت أو يقضي دينا على الراهن فلذا يرجع على المعتق ) إذا أيسر ، ونظير الأول ما إذا أعتق أمته على أن تتزوجه فأبت تسعى في قيمتها وهي حرة ، وكذا لو أعتقها على خمر مثلا تسعى في قيمتها وهي حرة ، وكذا لو باع نفس العبد منه بجارية فاستحقت عتق ويسعى في قيمته وهو حر عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمد وزفر تجب عليه قيمة الجارية ، بخلاف المريض إذا أعتق عبده فإنه يسعى وهو رقيق ; لأن تصرف المريض فيما لا يحتمل النقض موقوف عنده ( وقول الشافعي في الموسر كقولهما وقال في المعسر يبقى نصيب الساكت على ملكه يباع ويوهب )

وهذا قول للشافعي ( وجهه ) عنده ( أنه لا وجه لتضمين [ ص: 470 ] الشريك لإعساره ولا لاستسعاء العبد لأنه ليس بجان ولا راض به ، ولا لإعتاق الكل لأنه إضرار بالساكت فتعين ما عيناه . قلنا : نختار أن يستسعى ) قوله غير جان إلخ . قلنا : لا يفتقر إلى الجناية ، بل مدار لزومه احتباس المالية عنده كما ذكرنا في صبغ الثوب المطار ، وقد يتمسك له بما روي من الزيادة في قوله { فقد عتق منه ما عتق ورق ما رق } . ويدفع بأنها كما قال أهل الشأن ضعيفة مكذوبة ، ولو ثبت لزم كون المراد بالرق فيها الملك مجازا لامتناع اتصاف الجزء الشائع بالقوة الموجبة للمالكية والضعف السالب لها في شخص واحد .

والحق أنه لا يحتاج إليها بل بقوله " عتق منه ما عتق " كفاية ، فإنه إذا لم يعتق إلا ذلك القدر ، إن لم يلزم بقاء الباقي رقيقا يلزم بقاؤه مملوكا والملك هو المطلق للتصرف . والجواب أن ما في حديث أبي هريرة المتقدم من قوله { فعليه خلاصه في ماله إن كان له مال وإلا استسعى غير مشقوق عليه } يوجب استسعاءه عند إعساره ، ولا اعتراض على الشارع مع أن وجهه ما قدمنا .

واعلم أنه نقل عن بعض العلماء النافين صحة رواية الاستسعاء أن المراد بها على تقدير صحتها أنه يستسعى إن اختار ذلك ، وأن هذا هو معنى قوله غير مشقوق عليه . والأوجه الاستدلال بما قدمنا من قوله " ليس لله شريك " فإنه يفيد تنجيز العتق كله كما قالا أو عدم تقرره وهو الأولى . وإذا لم يقرر ولا ضمان على المعسر لزم الاستسعاء وإلا بطل حقه مجانا جبرا بفعل غيره ولا نظير له في الشرع ، والاستسعاء بلا جناية في الشرع ثابت كما في العبد المرهون إذا أعتقه سيده المعسر ، ولأن الشرع اضطره إلى فكاك رقبته حيث حكم ، وله ولاية الإيجاد والإعدام بنفاذ عتق ذلك القدر ، وأن لا يقر الباقي في الملك ولا يذهب مال الساكت بفعل غير مختار فيه ، وللشافعي قول آخر هو كقولهما في اليسار والإعسار ، واختاره المزني من أصحابه .




الخدمات العلمية