الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإن حلف على أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا ) لقول ابن عباس : لا إيلاء فيما دون أربعة أشهر ، [ ص: 198 ] ولأن الامتناع عن قربانها في أكثر المدة بلا مانع وبمثله لا يثبت حكم الطلاق فيه ( ولو قال والله لا أقربك شهرين وشهرين بعد هذين الشهرين فهو مول ) لأنه جمع بينهما بحرف الجمع فصار كجمعه بلفظ الجمع ( ولو مكث يوما ثم قال والله لا أقربك شهرين بعد الشهرين الأولين لم يكن موليا ) لأن الثاني إيجاب مبتدأ وقد صار ممنوعا [ ص: 199 ] بعد اليمين الأولى شهرين وبعد الثانية أربعة أشهر إلا يوما مكث فيه فلم تتكامل مدة المنع .

التالي السابق


( قوله فإن حلف على أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا ) وقال به الأئمة الأربعة وأكثر العلماء .

وقالت الظاهرية والنخعي وقتادة وحماد وابن أبي ليلى وإسحاق : يصير موليا في قليل المدة وكثيرها ، فإن تركها أربعة أشهر بانت بطلقة لإطلاق الآية في ذلك ، فإن لم يقيد الإيلاء بكونه على أربعة أشهر فصاعدا ، بل خص بالأربعة مدة التربص وأطلق الحلف . وكان أبو حنيفة أولا يقول به ثم رجع إلى قول ابن عباس لما صح عنده فتواه بخلافه .

أخرج ابن أبي شيبة : حدثنا علي بن مسهر عن سعيد عن عامر الأحول عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا آلى من امرأته شهرا أو شهرين أو ثلاثة ما لم يبلغ الحد فليس بإيلاء . وأخرج البيهقي عنه قال : كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك ، فوقت الله عز وجل أربعة أشهر ، فإن كان أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء . وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن عطاء وطاوس وسعيد بن جبير والشعبي ، ولا شك أن ظاهر الآية كقول من قال بأنه إيلاء ، والمعول عليه في دفعه قول الصحابي وكبار التابعين ممن ذكرنا ، فإن قول الصحابي في مثله ظاهر في السماع لكن يبقى فيه أنه زيادة على النص إذ هو تقييد لإطلاق الحلف في كونه إيلاء فلا يجوز إلا أن يكون فيه إجماع من الصحابة ، والمعنى الذي ذكر وهو أن المولي من لا يقدر على القربان في المدة إلا بشيء يلزمه وهذا ليس كذلك فرع كون أقل المدة أربعة أشهر ، وإلا فنحن [ ص: 198 ] لا نقول به إذ قلنا بعدم تقييد المدة المحلوف عليها بها فإثبات كون الأقل أربعة أشهر به مصادرة ( قوله لأن الامتناع عن قربانها في أكثر المدة بلا مانع إلخ ) .

قيل هو بناء على أنه أراد بالأقل من أربعة أشهر شهرا ، فإن وضع المسألة في الأصل إذا حلف لا يقربها شهرا وإلا فالأقل من الأربعة لا يستلزم كون الامتناع إلا في بعض المدة مطلقا لا في أكثرها لجواز كون الحلف على ثلاثة أشهر . وقيل لفظ ( أكثر ) مقحم وبعد ذلك التقريب ظاهر ، وقيل أراد بالأكثر تمام المدة أربعة أشهر سماها أكثر لأنها أكثر من المدة المحلوف عليها . ولا إشكال حينئذ لأن المانع غير موجود في جميعها في جميع صور الحلف على أقل من أربعة أشهر واستضعفه في الكافي . قال : وإنما يصح أن لو قال في أكثر المدتين انتهى .

ووجهه أن أفعل التفضيل يلزم في إضافته إلى شيء كونه بعض ما أضيف إليه ولذا امتنع يوسف أحسن إخوته ، وخواص البشر أفضل الملائكة ، وليس الأربعة الأشهر التي هي المراد بالأكثر بعض المدة المضاف إليها لاستحالة كون الأربعة بعض ما هو أقل منها فلزم في صحته أن يقول أكثر المدتين : يعني المدة المحلوف عليها ومدة الإيلاء وهي أربعة أشهر مدتان والثانية أكثرها .

ولا إشكال في أنه لو قال في بعض المدة كان أحسن وأسلم ( قوله وشهرين بعد هذين الشهرين ) إلى آخر المسألة الثانية لفظ بعض الشهرين ليس قيدا في حكم المسألة الأولى بل قيد في الثانية فقط ، ولفظ يوما في الثانية ليس قيدا ، لا فرق بين مكثه يوما أو ساعة . وقيل تكرير اليمين في مجلس أو مجالس وبينهما أقل من يوم تنجيز عند أبي حنيفة وأبي يوسف فقيد بمكثه يوما لتكون المسألة اتفاقية ، وهذا بعيد لأن أثبات المذهب نصوا على أن قوله والله لا أفعل كذا والله لا أفعل كذا يمينان ولم يحك فيه خلاف . وإنما حكي في قوله والله والله لا أفعل فذكروا أن ظاهر الرواية أنهما يمينان .

[ ص: 199 ] وفي نوادر ابن سماعة يمين واحدة ، وفي المنتقى جعل كونهما يمينين قياسا وكونهما يمينا واحدة استحسانا .

وفرع في الدراية في آخر الباب من غير أن يعزوه : والله لا أقربك مرارا في مجلس واحد تتعدد الكفارة وتطلق ثلاثا يتبع بعضها بعضا قياسا ، وهو قول محمد وزفر ، وواحدة استحسانا وهو قولهما وهو خلاف الأشهر . ولو قال في الثانية بعد يوم والله لا أقربك شهرين ولم يزد على ذلك لا يكون موليا أيضا ، لكن لا لما في الكتاب بل لتداخل المدتين فتتأخر المدة الثانية عن الأولى بيوم واحد أو بساعة بحسب ما فصل به بين اليمينين . فالحاصل من حلفيه الحلف على شهرين ويوم أو ساعة على حسب الفاصل .

والأصل في جنس هذه المسائل أن الإيلاء يوجب طلاقا في البر وكفارة في الحنث ، وأنه لا تلازم بين كونه إيلاء ويمينا كما قدمنا ، فلذلك قد يتعدد البر والحنث وقد يتحدان ، وقد يتعدد البر ويتحد الحنث وقلبه ، وتعدد البر بتعدد المدة لأنه بتعدد الإيلاء وهو بتعدد الظلم وهو بتعدد مدة المنع ، وما لم يجب تعددها من اللفظ كانت المدتان متداخلتين ، وتعدد اليمين بتعدد اسم الله أو تكرار حرف ( لا ) داخلة على المدة ، ومن زاد السكوت لم يحتج إليه لأن الاسم الكريم يتكرر بعد السكوت ، ولو كان الحلف بغير الاسم الكريم لم يلزم التعدد من تعدده . في التجريد عن أبي حنيفة رحمه الله : إذا حلف بأيمان عليه لكل يمين كفارة والمجلس والمجالس سواء .

ولو قال عنيت بالثاني الأول لم يستقم في اليمين بالله تعالى ، ولو حلف بحجة أو عمرة يستقيم . مثال تعددهما إذا جاء غد فوالله لا أقربك إذا جاء بعد غد فوالله لا أقربك . أما إنهما يمينان فلتعدد الذكر ، وأما أنهما إيلاءان فلتعدد المدة ، فإن تركها أربعة أشهر من اليوم الأول بر في الأولى وبانت ، فإذا مضى يوم آخر بر في الثانية وطلقت أيضا ; ولو قربها بعد الغد تجب كفارتان وإن أطلق لزومهما في الكافي ، ولو قربها في الغد لزمته كفارة واحدة لأن الغد لم ينعقد عليه إلا يمين واحدة وتعدد الكفارة بتعدد اليمين .

ونظيره في النوازل قال : والله لا أكلمه يوما والله لا أكلمه شهرا والله لا أكلمه سنة ; إن كلمه بعد ساعة فعليه ثلاثة أيمان ، وإن كلمه بعد الغد فعليه يمينان ، وإن كلمه بعد شهر فعليه يمين واحدة ، وإن كلمه بعد سنة فلا شيء عليه .

ومن تعددهما والله لا أقربك أربعة أشهر والله لا أقربك أربعة أشهر أخرى بعد هذه الأربعة الأشهر ، وكذا والله لا أقربك أربعة أشهر ولا أربعة أشهر أخرى بعد هذه الأربعة الأشهر ، إلا أنه تعدد بتعدد المدة بلا تداخل فلا يتصور في قربان واحد كفارتان ، وهذه [ ص: 200 ] نظير مسألة الهداية في عدم تداخل المدتين : أعني قوله والله لا أقربك شهرين ثم بعد يوم قال والله لا أقربك شهرين بعد هذين الشهرين فإنه ليس بإيلاء كما ذكر ، ولكن تتداخل المدتان ، فلو قربها في الشهرين الأولين لزمته كفارة واحدة ، وكذا في الشهرين الآخرين لأنه لم يجتمع على شهرين يمينان بل على كل شهرين يمين واحدة ، وقد توارد شروح الهداية من النهاية ، وغاية البيان على الخطإ عند كلامهم على هذه المسألة فاحذره ، فلو قربها في الأربعة الأولى لزمته كفارة واحدة ، وكذا في الأربعة الثانية ، ولو كان أطلق فقال والله لا أقربك ثم بعد ساعة فصاعدا قال والله لا أقربك ثم بعد ساعة قال كذلك فقربها بعد اليمين الثالثة لزمه ثلاث كفارات للتداخل في المحلوف عليه ، ولو لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت بتطليقة ، وعند تمام الثانية وهو ساعة بعدها تبين بأخرى إذا كانت في العدة ، وعند تمام الثالثة تبين بثالثة بلا خلاف ، بخلاف ما مضى في الكتاب في تأبيد اليمين فإن الإيلاءات هناك تنزل متعاقبة بواسطة تأبيد اليمين الواحدة ، فجاء الخلاف في أنه هل ينعقد الإيلاء الثاني في العدة أو لا .

ومن منعه قال : لا يبتدأ الإيلاء إلا في حال يكون بالمنع ظالما ، أما هنا فالإيلاءات الثلاثة صرح بها في حال العصمة وهو حال تحقق ظلمه بها فلا يتوقف وقوع الثانية على قيام النكاح ، ولو كان قال مرتين فقط لم تقع الثالثة إلا إذا تزوجها فيقع بحكم تأبيد اليمين إذا مضت أربعة أشهر من وقت التزوج . ومثال اتحادهما : والله لا أقربك أربعة أشهر أو لا أقربك شهرين وشهرين . وفي الكافي في نظيره : كلما كلمت واحدا من هذين فوالله لا أقربك فكلمتهما معا ، وليس للتقييد بذلك فائدة فإن بتكليمهما معا لم تنحل اليمين ، بل لو كلمت أحدهما بعدهما ثبت الإيلاء ، فالظاهر كون هذا من صور تعدد البر . فإن علة التعدد فيما بعد هذه بعينها في هذه .

ومثال تعدد البر واتحاد اليمين : كلما دخلت هذه الدار فوالله لا أقربك فدخلتها في يوم ثم في يوم آخر ثم في يوم آخر ، فإن قربها تجب كفارة واحدة ، وإن تركها أربعة أشهر من اليوم الأول بانت بتطليقة ، فإذا مضى يوم آخر بانت بأخرى ، وإذا مضى يوم آخر بانت بالثالثة ، وفي هذا المثال نظر لأن الحلف بالله وقع جزاء لشرط متكرر فيلزم تكرره . ولا يشكل بأنه لا حلف عند الشرط الثاني والثالث لأنه لم يوجد فيه ذكر اسم الله تعالى وإلا لزم أن لا حلف عند الشرط الأول أيضا ، ومع ذلك ثبت الحلف عنده ، ولعله اشتبه والله كلما دخلت لا أقربك بكلما دخلت فوالله لا أقربك ، وكذا لو قال كلما دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا إن قربتك يتعدد برا ، وكلما دخلت انعقدت مدة يقع بمضيها واحدة بائنة ، ولا يتصور حنثه إلا مرة واحدة لتعذر وقوع شيء آخر بعد الثلاث ، ونحوه كلما دخلت فعبدي حر إن قربتك سواء .

ومثال اتحاد الإيلاء وتعدد اليمين : إذا جاء غد فوالله لا أقربك ثم قال في المجلس إذا جاء غد فوالله لا أقربك فهو إيلاء واحد في حكم البر حتى لو مضت أربعة أشهر من الغد طلقت ، وإن قربها فعليه كفارتان لاتحاد المدة وتعدد الاسم ، وكذا والله لا أقربك أربعة أشهر ولا أربعة أشهر من غير أن يزيد لفظ أخرى أو نحوه .

واعلم أن هذه خلافية . وصورتها في الخلافيات لو قال والله لا أقربك والله لا أقربك [ ص: 201 ] والله لا أقربك في ثلاثة مجالس فكل من اليمين والإيلاء ثلاثة . وإن كان في مجلس واحد ، فإن أراد به التكرار فاليمين واحد والإيلاء واحد ، وإن لم ينو شيئا أو أراد التشديد والتغليظ وهو الابتداء دون التكرار فالأيمان ثلاثة إجماعا والإيلاء ثلاثة قياسا وهو قول محمد ، حتى إذا مضت أربعة أشهر ولم يقربها تبين بطلقة ثم عقيبها تبين بأخرى ثم بأخرى إلا أن تكون غير مدخول بها فلا يقع إلا واحدة ، وإن قربها وجب عليه ثلاث كفارات .

وفي الاستحسان وهو قولهما الإيلاء واحد فلا يقع إلا واحدة ، ويجب بالقربان ثلاث كفارات لأن الشرط الواحد يكفي لأيمان كثيرة ، ولما كانت المدة متحدة كان المنع متحدا فلا يتكرر الإيلاء




الخدمات العلمية