الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولو قال لها : أنت طالق أشد الطلاق أو كألف أو ملء البيت فهي واحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا ) أما الأول فلأنه وصفه بالشدة وهو البائن لأنه لا يحتمل الانتقاض والارتفاض ، أما الرجعي فيحتمله ، وإنما تصح نية الثلاث لذكره المصدر ، [ ص: 52 ] وأما الثاني فلأنه قد يراد بهذا التشبيه في القوة تارة وفي العدد أخرى ، يقال هو كألف رجل ويراد به القوة فتصح نية الأمرين ، وعند فقدانها يثبت أقلهما . وعن محمد أنه يقع الثلاث عند عدم النية لأنه عدد فيراد به التشبيه في العدد ظاهرا فصار كما إذا قال : أنت طالق كعدد ألف ، وأما الثالث فلأن الشيء قد يملأ البيت لعظمه في نفسه وقد يملؤه لكثرته ، فأي ذلك نوى صحت نيته ، وعند انعدام النية يثبت الأقل . ثم الأصل عند أبي حنيفة أنه متى شبه الطلاق بشيء يقع بائنا : أي شيء كان المشبه به ذكر العظم أو لم يذكر [ ص: 53 ] لما مر أن التشبيه يقتضي زيادة وصف . وعند أبي يوسف إن ذكر العظم يكون بائنا وإلا فلا أي شيء كان المشبه به لأن التشبيه قد يكون في التوحيد على التجريد . أما ذكر العظم فللزيادة لا محالة . وعند زفر إن كان المشبه به مما يوصف بالعظم عند الناس يقع بائنا وإلا فهو رجعي . وقيل محمد مع أبي حنيفة ، وقيل مع أبي يوسف . وبيانه في قوله مثل رأس الإبرة مثل عظم رأس الإبرة ومثل الجبل مثل عظم الجبل

التالي السابق


( قوله : ولو قال لها أنت طالق أشد الطلاق أو كألف أو ملء البيت فهي واحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا أما الأول ) وهو قوله : أشد الطلاق ( فلأنه وصفه بالشدة ) فإن قيل : بل بالأشدية فيجب وقوع الثلاث ، وكذا كل ما كان مثله مثل : أقبح الطلاق . أجيب بأن أفعل يراد به أيضا الوصف كقولهم : الأشج والناقص أعدلابني مروان : أي عادلاهم فلا يحمل على الثلاث بالاحتمال ولا يخفى أن الاعتبار للظاهر ولذا ثبت البائن كالجبل مع احتمال إرادة كون وجه التشبيه الواحدة ، والأوجه أن هذا الاحتمال يجعل ظاهرا لحرمة الثلاث فيصار إلى الواحدة البائنة وتتوقف الثلاث على النية . ثم قوله : ( وإنما تصح نية الثلاث لذكره المصدر ) فإن المعنى طالق طلاقا هو أشد [ ص: 52 ] الطلاق . والحاصل أن أفعل التفضيل بعض ما أضيف إليه فكان أشد معبرا به عن المصدر الذي هو الطلاق ( قوله : وأما الثاني وهو قوله : كألف فقد يراد به التشبيه في القوة ) كما يقال زيد كألف رجل : أي بأسه وقوته كبأسهم وقوتهم ، وقد يراد به التشبيه في العدد فيصير كما لو نص على العدد فقال كعدد ألف أو قدر عدد ألف وفيه يقع ثلاث اتفاقا فتصح نية كل من الأمرين ، وعند فقدانها يثبت أقلهما ، وعند محمد يقع الثلاث عند عدم النية لأنه عدد فيراد به التشبيه في العدد ظاهرا فيصير كقوله : طالق كعدد ألف ، ومعلوم أن التشبيه بالعدد ليس له معنى في خصوص الكمية ، وإلا لقال : أنت طالق ألفا إذ لا معنى لقوله ألف تشبه هذه الألف فإنه يستقيم في الكثرة : أي طالق عددا كثيرا ككثرة الألف ، والكثرة التي تشبه كثرة الألف ما يقاربها فلا بد أن يزيد على اثنين فيقع الثلاث . قلنا : كون التشبيه به في القوة أشهر فلا يقع الآخر إلا بالنية ، بخلاف عدد الألف ، وعلى هذا الخلاف مثل ألف ، أما لو قال : واحدة كألف فهي واحدة بائنة بالإجماع .

ولو شبه بالعدد فيما لا عدد به فقال طالق كعدد الشمس أو التراب أو مثله فعند أبي يوسف رجعية ، واختاره إمام الحرمين من الشافعية لأن التشبيه بالعدد فيما لا عدد له لغو ولا عدد للتراب . وعند محمد يقع الثلاث وهو قول الشافعي وأحمد لأنه يراد بالعدد إذا ذكر الكثرة .

وفي قياس قول أبي حنيفة واحدة بائنة لأن التشبيه يقتضي ضربا من الزيادة كما مر . أما لو قال مثل التراب يقع واحدة رجعية عند محمد ، وعنه في كالنجوم تقع واحدة وكعدد النجوم ثلاث . والفرق له بين هذا وبين قوله كألف أن الألف موضوع للعدد فيكون التشبيه به للكثرة ، بخلاف النجوم فيحتمل التشبيه في النور . ولو قال كثلاث فهي واحدة بائنة عند أبي يوسف وثلاث عند محمد كما لو قال كعدد ثلاث ، وهذا ضعيف لأنه تشبيه العدد بالعدد في خصوص الكمية وفيه ما ذكرناه آنفا . وفي كافي الحاكم لو قال : أنت طالق أكثر الطلاق فهي ثلاث لا يدين فيها إذا قال : نويت واحدة ا هـ . ولو أضافه إلى عدد معلوم النفي كعدد شعر بطن كفي أو مجهول النفي والإثبات كعدد شعر إبليس أو نحوه تقع واحدة أو من شأنه الثبوت لكنه كان زائلا وقت الحلف بعارض كعدد شعر ساقي أو ساقك وقد تنورا لا يقع لعدم الشرط

( قوله وأما الثالث ) هو قوله : ملء البيت فلأن الشيء قد يملأ البيت لعظمه في نفسه وقد يملأه لكثرته فأي ذلك نوى صحت نيته وعند عدم النية يثبت الأقل وهو ظاهر ( قوله ثم الأصل ) الأصل أنه إذا وصف الطلاق بما لا يوصف به يلغو الوصف ويقع رجعيا نحو طلاقا لا يقع [ ص: 53 ] عليك أو على أني بالخيار وإن كان يوصف به ، فإما أن لا ينبئ عن زيادة في أثره كقوله : أحسن الطلاق أسنه أجمله أعدله خيره أكمله أتمه أفضله فيقع به رجعيا وتكون طالقا للسنة في وقت السنة ، وإن نوى ثلاثا فهي ثلاث للسنة . وفي مختصر الطحاوي : لو قال : أنت طالق تطليقة حسنة أو جميلة كانت طالقا ويملك رجعتها حائضا كانت أو غير حائض ولم تكن هذه التطليقة للسنة . قال : وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنها طالق تطليقة للسنة ، كما لو قال : أنت طالق أحسن الطلاق أو ينبئ كأشده وأطوله يقع به بائنا ، وأما تشبيهه فكلمتهم على أنه بائن عند أبي حنيفة أي شيء كان المشبه به كرأس إبرة وكحبة خردل أو كسمسمة لاقتضاء التشبيه الزيادة . وعند أبي يوسف إن ذكر العظم فكذلك وإلا فرجعي أي شيء كان المشبه به ولو كان عظيما لأن التشبيه قد يكون من حيث التوحيد والتجريد والعظم للزيادة لا محالة . وعند زفر إن كان المشبه به مما يوصف بالعظم عند الناس فبائن وإلا فرجعي ذكر العظم أو لا . وبيان الأصول في مثل رأس إبرة عند أبي حنيفة بائن وعند أبي يوسف رجعي إلا أن يقول كعظم رأس إبرة فحينئذ هو بائن وعند زفر رجعية . وفي كالجبل بائن عند أبي حنيفة وزفر ، رجعي عند أبي يوسف إلا أن يقول كعظم الجبل ، ولو قال مثل عظمه فهو بائن عند الكل .

وقول محمد قيل مع أبي حنيفة وقيل مع أبي يوسف ، هذا كله عند عدم النية . أما لو نوى الثلاث في هذه الفصول صحت نيته لأن الواقع بها بائن ، والبينونة تتنوع إلى غليظة وخفيفة . وفي شرح الكنز كالثلج بائن عند أبي حنيفة ، وعندهما إن أراد به بياضه فرجعي وإن أراد به برده فبائن ا هـ . وهذا يقتضي أن أبا يوسف لا يقصر البينونة في التشبيه على ذكر العظم بل يقع بدونه عند قصد الزيادة ، وكذا يبعد كل البعد أن يقع بائن عند أبي حنيفة لو قال أنت طالق كأعدل الطلاق وكأسنه وكأحسنه ، والله سبحانه أعلم .




الخدمات العلمية