الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 516 ] ( ولو قال كل مملوك أملكه ، أو قال كل مملوك لي حر بعد موتي وله مملوك فاشترى مملوكا آخر فالذي كان عند وقت اليمين مدبر والآخر ليس بمدبر ، وإن مات عتقا من الثلث ) وقال أبو يوسف رحمه الله في النوادر : يعتق ما كان في ملكه يوم حلف ولا يعتق ما استفاد بعد يمينه ، وعلى هذا إذا قال كل مملوك لي إذا مت فهو حر . له أن اللفظ حقيقة للحال على ما بيناه فلا يعتق به ما سيملكه ولهذا صار هو مدبرا دون الآخر . [ ص: 517 ] ولهما أن هذا إيجاب عتق وإيصاء حتى اعتبر من الثلث وفي الوصايا تعتبر الحالة المنتظرة والحالة الراهنة ; ألا ترى أنه يدخل في الوصية بالمال ما يستفيده بعد الوصية وفي الوصية لأولاد فلان من يولد له بعدها . [ ص: 518 ] والإيجاب إنما يصح مضافا إلى الملك أو إلى سببه ، فمن حيث إنه إيجاب العتق يتناول العبد المملوك اعتبارا للحالة الراهنة فيصير مدبرا حتى لا يجوز بيعه ، ومن حيث إنه إيصاء يتناول الذي يشتريه اعتبارا للحالة المتربصة وهي حالة الموت ، وقبل الموت حالة التملك استقبال محض فلا يدخل تحت اللفظ ، وعند الموت يصير كأنه قال : كل مملوك لي أو كل مملوك أملكه فهو حر ، بخلاف قوله بعد غد على ما تقدم لأنه تصرف واحد وهو إيجاب العتق وليس فيه إيصاء والحالة محض استقبال فافترقا . ولا يقال : إنكم جمعتم بين الحال والاستقبال . لأنا نقول : نعم لكن [ ص: 519 ] بسببين مختلفين إيجاب عتق ووصية ، وإنما لا يجوز ذلك بسبب واحد .

التالي السابق


( قوله ولو قال كل مملوك أملكه أو كل مملوك لي حر بعد موتي وله مملوك فاشترى آخر ثم مات فالذي كان عنده مدبر ) مطلق لا يصح بيعه بعد هذا القول ، والذي اشتراه ليس بمدبر مطلق بل مدبر مقيد حتى جاز بيعه ، ولو لم يبعه حتى مات عتقا جميعا من الثلث إن خرجا منه عتق جميع كل منهما ; وإن ضاق عنهما يضرب كل منهما بقيمته فيه ، وهذا ظاهر المذهب عن الكل . وعن أبي يوسف في النوادر أنه لا يعتق ما استفاد بعد يمينه ، وإنما يعتق [ ص: 517 ] ما كان في ملكه يوم حلف ، وكذا إذا قال كل مملوك لي إذا مت فهو حر ، وهذا لأن اللفظ حقيقة للحال على ما بيناه من أن المضارع للحال ، وكذا الوصف فلا يعتق به ما سيملكه ، ولهذا صار به الكائن في ملكه حال التكلم مدبرا في الحال دون الآخر ، وبهذا الوجه طعن عيسى بن أبان في جواب المسألة ، فأوجب المروي عن أبي يوسف .

وأيضا لو لم يرد به الحال فقط ، فإما أن يراد كل منه ومن المملوك في المستقبل فيلزم إما تعميم المشترك أو استعماله في حقيقته ومجازه ثم يلزم تدبير كل منهما ذاك في الحال والمستحدث عند ملكه لأنه حينئذ في معنى كل مملوك لي أو سأملكه مدبر ، وكذا إذا أريد باللفظ المجتمع في الملك عند الموت وهو عموم المجاز كما ذهب إليه محمد رحمه الله فيمن قال كل مملوك أملكه غدا فهو حر ولا نية له عتق ما اجتمع في ملكه غدا ممن كان مملوكا له حال التكلم أو ملكه إلى غد ، خلافا لأبي يوسف فإن على قوله لا يتناول إلا المملوك في الغد فيلزم تدبير كل منهما تدبيرا مطلقا على قول محمد ، كما لو قال كل من كان في ملكي عند الموت مدبر وهو منتف ، أو يراد المستقبل فقط كما لو قال كل مملوك أملكه إلى سنة أو شهر أو إلى أن أموت أو أبدا لزم أن لا يعتق ما كان في ملكه ولا يصير مدبرا وهو منتف فبطلت الأقسام فتعين الأول وهو أن يعتق الكائن في ملكه وقت التكلم فقط ولازمه ما ذكرنا .

وعرف من هذا أن صورة التراكيب ثلاثة أقسام : ما يتناول الحال فقط اتفاقا وهو كل مملوك أملكه أو كل مملوك لي حر ولا نية له فهو على ما كان في ملكه يوم قاله ولا يعتق ما يستقبل ملكه ، وما يتناول المستقبل لا غير اتفاقا وهو كل مملوك أملكه إلى سنة ونحوه ، وما فيه خلافهما وهو نحو : كل مملوك أملكه غدا ، ففي قول محمد رحمه الله يعتق في الغد من كان في ملكه ، والمستحدث خلافا لأبي يوسف وقول محمد أقيس بمسألته يومئذ بقليل تأمل .

( قوله ولهما أن هذا ) أي مجموع التركيب لا لفظ أملكه فقط كما في بعض الشروح ( إيجاب عتق وإيصاء ) لأن حاصل التدبير إيجاب للعتق مضافا إلى ما بعد الموت ، وهذا هو الإيصاء به فوجب أن يعمل بمقتضى كل من الإيجاب والإيصاء اللذين هما معنى التدبير ، ومقتضى إيجاب عتق ما يملكه وقوعه في الحاصل في الملك حال التكلم ثم هو مضاف إلى الموت فكان تدبيرا مطلقا فلا يجوز بيعه ، ومقتضى الوصية بما يملكه دخول ما في الحالة الراهنة : أي [ ص: 518 ] الحابسة لما فيها والرهن هو الحبس وزمن الحال هو الحابس لما فيه دون ما قبله وما بعده ودخول ما في الحالة المنتظرة أيضا للاتفاق ، على أنه لو أوصى بثلث ماله دخل المستحدث من المال بعد الوصية ، ولو أوصى لولد فلان ولا ولد له فولد له بعد ذلك أولاد دخلوا واستحقوا الموصى به ، وإنما اعتبر في الوصية دخول كل ما في الحالين تحصيلا لغرض الميت من تحصيل الثواب والبر فيصير كأنه قال عند الموت كل عبد حر فيعتق ما دخل في ملكه قبل ذلك ومنه ما ملكه بعد قوله الصريح ، بخلاف قوله كل عبد أملكه غدا فهو حر ليس فيه إلا جهة واحدة هي جهة الإيجاب ، فلا يدخل إلا الحاصل في الحال ، ولما كان هذا لا ينفي استعمال اللفظ في معنييه : أعني لفظ أملك وهو ممنوع عندنا أورده المصنف .

وأجاب بأن الممتنع الجمع بسبب واحد لا بسببين ، وأنت تعلم أن هذا قول للعراقيين غير مرضي في الأصول ، وإلا لم يمتنع الجمع مطلقا ولم يتحقق خلاف فيه ; لأن الجمع [ ص: 519 ] قط لا يكون إلا باعتبارين وبالنظر إلى شيئين ، ولو أمكن أن يقال : إن لفظه أوجب تقدير لفظ إذ كان وصية وهو ما قدرناه عند موته من قوله كل عبد لي حر فيعتق به ما استحدث ملكه والموجب للتقدير ما ذكرنا من تحقيق مقصود الوصية من الثواب والبر للأصحاب ، وهذا الموجب لا يحتاج إلى تقديم تقديره عند ملك العبد وإلا كان مدبرا مطلقا ، وإنما يحتاج إليه عند موته فلا تتعلق به عبارته عند ملكه لا الصريحة لأنها لم تتناول إلا الحال ولا المقدرة لتأخير تقديرها إلى ما قبل الموت فلا يكون مدبرا لا مطلقا ولا مقيدا كان دافعا للإشكال .



[ فروع من تعليق العتق ]

قال لعبده إن بعتك فأنت حر فباعه لم يعتق لأن نزول العتق المعتق بعد الشرط وبعد البيع هو ليس بمملوك فلا يعتق ، إلا أن يكون البيع فاسدا فيعتق لأن الملك فيه بعد البيع باق لا يزول إلا بتسليمه ، إلا أن يكون المشتري تسلمه قبل البيع فحينئذ يزول ملكه بنفس البيع فلا يعتق ، كذا في المبسوط . وحقيقة الوجه أن يقال وقت نزول العتق هو وقت زوال الملك لأنهما معا يتعقبان البيع فلا يثبت العتق في حال زوال الملك كما لا يثبت في حال تقرر زواله .



ولو قال لعبده إن دخلت فأنت حر فباعه فدخل ثم اشتراه فدخل لم يعتق لأن اليمين انحلت بالدخول الأول في غير الملك إذ ليس يلزم من انحلال اليمين نزول الجزاء ، ولو لم يدخل بعد البيع حتى اشتراه فدخل عتق خلافا للشافعي لعدم بطلان اليمين عندنا بزوال الملك ومثله في الطلاق .



ولو قال : إن دخلت هاتين الدارين فأنت حر فباعه فدخل إحداهما ثم اشتراه فدخل الأخرى عتق لأن الشرط إذا كان مجموع أمرين كان الشرط وجود الملك عند آخرهما ، وبينا مثله في الطلاق ، ولو دخل إحداهما قبل البيع والأخرى بعد البيع ثم اشتراه لا يعتق لعدم الملك عند آخرهما ، وليس يلزم من كون الشرط مجموع أمرين اعتراض الشرط ، فلو قال إذا دخلت فأنت حر إذا كلمت فلانا فباعه فدخل ثم اشتراه فكلم فلانا لم يعتق لأن شرط العتق ليس إلا الكلام ، غير أنه علق اليمين المنعقدة من شرط الكلام وجزائه الذي هو العتق بالدخول فالدخول شرط اليمين فيصير كأنه قال عند الدخول الكائن في غير ملكه أنت حر إذا كلمت فلانا ; لأن المعلق كالمنجز عند وجود الشرط واليمين لا ينعقد في غير ملكه فكلامه غير موقع .



ولو قال : إن دخلت فأنت حر بعد موتي فباعه فدخل ثم اشتراه ومات لم يعتق لأنه علق التدبير بدخول الدار فيصير كالمنجز عنده وعنده لم يكن الملك قائما ، والتدبير لا يصح إلا في الملك أو مضافا إليه ، وإذا لم يصح التدبير لم يعتق بموته .



ولو علق عتق عبد مشترك بينه وبين غيره ثم اشترى باقيه ففعل ما علق عتقه عليه لم يعتق إلا نصفه لأنه إنما ينزل المعلق والمعلق كان النصف والعتق يتجزأ عند أبي حنيفة فيسعى في قيمة نصفه لسيده . وعندهما يعتق كله فلا يسعى ، ولو كان باع النصف الأول ثم اشترى نصف شريكه ثم دخل الدار لم يعتق منه شيء ; لأن المعلق النصف المبتاع لا المستحدث وقد وجد الشرط في غير ملكه .



ولو جمع بين عبده وبين ما لا يقع فيه العتق من ميت أو حجر أو حمار وقال أحدكما حر أو قال هذا أو هذا عتق عبده عند أبي حنيفة وإن لم ينوه ، وقالا : لا يعتق إلا أن ينويه ، ومثله وأصله مر في الطلاق . وروى ابن سماعة عن محمد أنه إذا جمع بين عبده وأسطوانة وقال أحدكما حر عتق عبده لأن كلامه إيجاب الحرية للجزم ، ولو قال هذا حر [ ص: 520 ] أو هذا لم يعتق عبده لأن هذا اللفظ ليس بإيجاب لها كقوله هذا حر أو لا .



وهذه مسألة في الشهادة على الشرط قال إن دخلت دار فلان فأنت حر فشهد فلان وآخر أنه قد دخل عتق لأن الدخول فعل العبد وصاحب الدار في شهادته به غير متهم فصحت شهادته ، بخلاف ما لو قال إن كلمته فشهد هو وآخر أنه كلمه لم يعتق لأن فلانا في هذه شاهد على فعل نفسه فلم يبق إلا شاهد واحد على الشرط ، ولو شهد ابنا فلان أنه كلم أباهما ، فإن جحد الأب جازت شهادتهما لأنهما شهدا على أبيهما بالكلام وعلى أنفسهما بوجود الشرط وإن دعاه أبوهما فعند أبي يوسف هي باطلة ، وعند محمد جائزة لأنه لا منفعة للمشهود به لأبيهما فمحمد يعتبر المنفعة لثبوت التهمة وأبو يوسف يعتبر مجرد الدعوى والإنكار لأن شهادتهما يظهران صدقه فيما يدعيه وتقدم مثل هذه في النكاح ، والله أعلم .




الخدمات العلمية