الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 18 ] ( ولو قال : أنت طالق من واحدة إلى ثنتين أو ما بين واحدة إلى ثنتين فهي واحدة . ولو قال : من واحدة إلى ثلاث أو ما بين واحدة إلى ثلاث فهي ثنتان . وهذا عند أبي حنيفة . وقال في الأولى هي ثنتان وفي الثانية ثلاث ) وقال زفر : الأولى لا يقع شيء ، وفي الثانية تقع واحدة ، وهو القياس لأن الغاية لا تدخل تحت المضروب له [ ص: 19 ] الغاية ، كما لو قال : بعت منك من هذا الحائط إلى هذا الحائط .

وجه قولهما وهو الاستحسان أن مثل هذا الكلام متى ذكر في العرف يراد به الكل ، كما تقول لغيرك : خذ من مالي من درهم إلى مائة . [ ص: 20 ] ولأبي حنيفة رحمه الله أن المراد به الأكثر من الأقل والأقل من الأكثر فإنهم يقولون سني من ستين إلى سبعين وما بين ستين إلى سبعين ويريدون به ما ذكرناه ، وإرادة الكل فيما طريقه طريق الإباحة كما ذكر ، إذ الأصل في الطلاق [ ص: 21 ] هو الحظر ، ثم الغاية الأولى لا بد أن تكون موجودة ليترتب عليها الثانية ، ووجودها بوقوعها ، بخلاف البيع لأن [ ص: 22 ] الغاية فيه موجودة قبل البيع . ولو نوى واحدة يدين ديانة لا قضاء لأنه محتمل كلامه لكنه خلاف الظاهر .

التالي السابق


( قوله : أنت طالق من واحدة إلى ثنتين أو ما بين واحدة إلى ثنتين فهي واحدة ، ولو قال : من واحدة إلى ثلاث أو ما بين واحدة إلى ثلاث فهي ثنتان ) وهذا التفصيل عند أبي حنيفة ، وقالا في الأولى وهي قوله من واحدة إلى ثنتين وما بين واحدة إلى ثنتين يقع ثنتان وفي الثانية وهي قوله من واحدة إلى ثلاث وما بين واحدة إلى ثلاث يقع ثلاث . وقال : زفر : في الأولى لا يقع شيء وفي الثانية يقع واحدة [ ص: 19 ] وتسمية الصورتين أولى ثم الصورتين ثانية باعتبار اتحاد مدخول إلى في الصورتين ، فالأولى ما كان مدخول إلى ثنتين ، والثانية ما كان مدخولها ثلاثا .

ثم قال المصنف في قول زفر : وهو القياس لأن الغاية لا تدخل تحت المضروب له الغاية كما لو قال : بعت منك من هذا الحائط إلى هذا الحائط . واعلم أن زفر لا يدخل الحدين لا الأول ولا الثاني ، والعرف أن يراد بالغاية المتأخرة فقط مدخولة إلى وحتى لأنها المنتهى . فوجه ما ذكر المصنف باستعمال الغاية في الحد : أي الحد من الطرفين لا يدخل تحت المضروب له الحد والمضروب له هو البيع مثلا فلا يدخل الحدان فيه ، فكذا في الطلاق . وقد صرح بتسمية الأولى غاية في وجه أبي حنيفة حيث قال : ثم الغاية الأولى . والمراد بالقياس قضية اللفظ لا القياس الأصولي ، لأن زفر إنما بنى جوابه على قضية اللفظ كما يفيده جوابه المنقول للأصمعي حين سأله عند باب الرشيد عن قول الرجل أنت طالق ما بين واحدة إلى ثلاث فقال : تطلق واحدة لأن كلمة ما بين لا تتناول الحدين ، وكذلك من واحدة إلى ثلاث لأن الغاية لا تدخل تحت المغيا فألزمه في قول الرجل كم سنك فقال : من ستين إلى سبعين أن يكون عمره تسع سنين فيكون إيراد مسألة البيع ذكر محل بإعمال اللفظ كالدليل السمعي بذكر محل إعماله ليبين أنه غير متروك الظاهر لا للقياس عليها .

والحاصل أن ذكر البيع على هذا زيادة على تمام الدليل لا أصل للقياس فيكون جزء الدليل ، ثم قد نسب إلى أبي حنيفة ما نسب إلى الأصمعي غير أنه قال له في الإلزام : كم سنك ؟ فقال له زفر : ما بين ستين إلى سبعين فقال له أبو حنيفة : سنك غبرا تسع سنين ، وهذا بعيد إذ يبعد أن يجيب فيما بين واحدة إلى ثلاث ونحوه بذلك ثم يقال له كم سنك فيجيب بلفظ ما بين دون أن يقول خمسة وستين ونحوه مع ظهور ورود الإلزام حينئذ إلا وقد أعد جوابه فلم يكن بحيث ينقطع .

على أنه روي أنه قال عند إلزام الأصمعي : استحسن في مثل هذا ، والذي يتبادر في وجه استحسانه أن في قول الرجل سني ما بين الستين إلى السبعين عرفا في إرادة الأقل من الأكثر والأكثر من الأقل ، ولا عرف في الطلاق إذ لم يتعارف التطليق بهذا اللفظ فيبقى على ظاهره ، وقد قيل من طرفه غير هذا ، وهو أن ما بين العددين المذكورين أكثر من ستين فكيف يكون تسعة ، وهذا بناء على أن ما بين ستين وسبعين أحد وستون واثنان وستون إلى تسع وستين لا واحدة إلى تسعة ، وإنما يصح إذا لم يعتبر الحد الأول خارجا عن مسمى لفظ ما بين كذا وكذا ، والظاهر أنه خارج ، وجواب زفر حيث قال : لا يتناول الحدين صريح فيه ، والأوجه ما ذكرنا له والله أعلم .

( قوله وجه قولهما وهو الاستحسان أن مثل هذا الكلام متى ذكر في العرف يراد به الكل ) كقول الرجل خذ من مالي من [ ص: 20 ] عشرة إلى مائة وبع عبدي بما بين مائة إلى ألف وكل من الملح إلى الحلو .

له أخذ المائة والبيع بألف وأكل الحلو ( قوله ولأبي حنيفة أن المراد في العرف الأقل من الأكثر والأكثر من الأقل ) ولا يخفى أن المراد أن ذلك إنما هو إذا كان بين الحدين متخلل فإنه لا يتحقق في نحو من درهم إلى درهمين إرادة مجموع الأكثر من الأقل والأقل من الأكثر ، ففي نحو طالق من واحدة إلى ثنتين انتفى ذلك العرف منه عنده فوجب إعمال طالق فيقع واحدة . ولا يعترض بأنه لا يتأتى في من واحدة إلى ثنتين لأنه لم يذكر إلا لما يصدق عليه ولم يدع أنه جار في غيره ليعترض بأنه لم يصدق في عدم متخلل مع أنه مسوق لنفي قولها يجب الأكثر .

والحاصل أن قول كل من الثلاثة استحسان بالتعارف بالنسبة إلى قول زفر إلا أنهما أطلقا فيه ، وأبو حنيفة يقول : إنما وقع كذلك فيما مرجعه إباحة غبرا المذكورة ، أما ما أصله الحظر حتى لا يباح إلا لدفع الحاجة فلا والطلاق منه فكان قرينة على عدم إرادة الكل ، غير أن الغاية الأولى لا بد من وجودها ليترتب عليها الطلقة الثانية في صورة إيقاعها وهي صورة من واحدة إلى ثلاث إذ لا ثانية بلا أولى ووجود الطلاق عين وقوعه ، بخلاف الغاية الثانية وهي ثلاث في هذه الصورة فإنه يصح وقوع الثانية بلا ثالثة ، أما صورة من واحدة إلى ثنتين فلا حاجة إلى إدخالها لأنها إنما دخلت ضرورة إيقاع الثانية وهو منتف ، وإيقاع الواحدة ليس باعتبار إدخالها غاية بل بما ذكرنا من انتفاء العرف فيه فلا يدخلان ويقع بطالق وهذا كما صحح في قوله من واحدة إلى واحدة أنه يقع واحدة عند زفر خلافا لما قيل : لا يقع عنده شيء لعدم التخلل . ووجه بأنه يلغو قوله من واحدة إلى واحدة لامتناع كون الواحد مبدأ للغاية ومنتهى ويقع بطالق واحدة ، كذا هنا يجب أن يلغو من واحدة إلى ثنتين عنده ثم يقع بطالق واحدة ، وأورد إذا قيل طالق ثانية لا يقع إلا واحدة . [ ص: 21 ] أجيب بأن ثانية لغو فيقع بأنت طالق واحدة ، بخلاف قوله هنا من واحدة إلى ثلاث فإنه كلام معتبر في إيقاع الثانية فلا يتحقق ذلك إلا بعد إيقاع الأولى .

فإن قيل : لفظ ما بين هذا وهذا يستدعي وجود الأمرين ووجودهما وقوعهما فيقع الثلاث . والجواب أن ذلك في المحسوسات ، أما ما نحن فيه من الأمور المعنوية فإنما يقتضي الأول واحتمال وجود الثاني عرفا ، ففي من الستين إلى السبعين يصدق إذا لم يبلغ السبعين بل منتظره ولم يعد مخطئا في التكلم به لإفادة ذلك القدر . بقي أن يقال : إن هذا إن انتهض عليهما لا ينتهض على زفر لما تقدم أنه يقال من طرفه لا عرف في الطلاق فلا يلزم إدخال الغاية الأولى لأن ما بين إنما يتناول الثانية لا من حيث هي ثانية الواقع بل من حيث هي ما بين الواحدة والثلاث فلا احتياج إلى إدخالها ضرورة إيقاع الثانية في من واحدة إلى ثلاث . ولما لم يثبت تعارف مثل ذلك التركيب في الطلاق وجب اعتبار غبرا أجزاء لفظه وهي لا توجب إلا دخول ما بين الحدين ولا مخلص إلا بادعاء أن العرف أفاد أن مثله يراد به ذلك في أي مادة وقع وقد لا يسلمه زفر ( قوله بخلاف ) جواب عن قياس زفر على مسألة من هذا الحائط إلى هذا الحائط بالفرق بأن التطليقة الثانية واقعة ولا وجود لها إلا بوقوع الأولى فوقعت ضرورة ، بخلاف الغاية في البيع فإنها لم تدع ضرورة إلى إدخالها في المغيا فبقيت الغايتان خارجتين ، وأنت علمت أن الاستدلال على الأقوال الثلاثة ليس إلا بقضية اللفظ ، ومسألة البيع لإظهار أن اللفظ لم يترك ظاهره فتحقيق الفرق على قول أبي حنيفة أن العرف فيه إرادة الأكثر من الأقل إلى آخره فاقتضى في من واحدة إلى ثلاث وقوع ثنتين لأنهما الأكثر من الأقل والأقل من الأكثر فلزم وقوع الأولى ، [ ص: 22 ] بخلاف بعت من هذا الحائط إلى هذا الحائط لأن التعارف إنما وقع في الأعداد نحو من ستين إلى سبعين وما بين ستين إلى سبعين ونحوه فبقي اللفظ في غيرها على مقتضاه لغة فلا تدخل الغايتان .

وبه اندفع سؤال أن ما بين يقتضي وجود الطرفين فيقعان كقولهما فإن العرف أعطى أن قضيته عدم وقوع الثانية . [ فرعان ] لو قال : من واحدة إلى عشرة يقع ثنتان عند أبي حنيفة ، وقيل : يقع ثلاث لأن اللفظ معتبر في الطلاق ، حتى لو قالت : طلقني ستا بألف وطلقها ثلاثا وقعت الثلاث بخمسمائة ، ولو قال : ما بين واحدة وثلاث وقعت واحدة نقل عن أبي يوسف ، بخلاف ما إذا كان غاية . وكذا يجب عند الكل إلا إن كان فيه العرف الكائن في الغاية ( قوله ولو نوى واحدة ) أي في من واحدة إلى ثلاث وفي ما بين واحدة إلى ثلاث إذا كان فيه عرف الغاية ( قوله لأنه خلاف الظاهر ) وفيه تخفيف عليه




الخدمات العلمية