الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا شهد رجلان على رجل أنه أعتق أحد عبديه فالشهادة باطلة عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يكون في وصية ) استحسانا ذكره في كتاب العتاق ( وإن شهد أنه طلق إحدى نسائه جازت الشهادة ويجبر الزوج على أن يطلق إحداهن ) وهذا بالإجماع ( وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : الشهادة في العتق مثل ذلك ) وأصل هذا أن الشهادة على عتق العبد لا تقبل من غير دعوى العبد عند أبي حنيفة رحمه الله ، وعندهما تقبل ، والشهادة على عتق الأمة وطلاق المنكوحة مقبولة من غير دعوى بالاتفاق والمسألة معروفة . [ ص: 507 - 508 ] وإذا كان دعوى العبد شرطا عنده لم تتحقق في مسألة الكتاب ; لأن الدعوى من المجهول لا تتحقق فلا تقبل الشهادة . وعندهما ليس بشرط فتقبل الشهادة وإن انعدم الدعوى .

أما في الطلاق فعدم الدعوى لا يوجب خللا في الشهادة لأنها ليست بشرط فيها . ولو شهدا أنه أعتق إحدى أمتيه لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله وإن لم تكن الدعوى شرطا فيها لأنه إنما لا تشترط الدعوى لما أنه يتضمن تحريم الفرج فشابه الطلاق ، والعتق المبهم لا يوجب تحريم الفرج عنده على ما ذكرناه فصار كالشهادة على عتق أحد العبدين . [ ص: 509 ] وهذا كله إذا شهدا في صحته على أنه أعتق أحد عبديه .

التالي السابق


( قوله وإن شهد رجلان على رجل أنه أعتق أحد عبديه فالشهادة باطلة عند أبي حنيفة إلا أن تكون في وصية استحسانا ذكره في العتاق ) أي عتاق الأصل بأن شهدا أنه أعتق أحد عبديه في مرض موته أو شهدا بتدبيره أحدهما مطلقا في صحته أو مرضه ، لأن التدبير حيث وقع كان وصية ، وعندهما تقبل ويؤمر بتنجيز عتق أحدهما وهو قول الشافعي ومالك وأحمد ( قوله وأصل هذا ) أي أصل هذا الخلاف ( أن الشهادة على عتق العبد لا تقبل عند أبي حنيفة من غير دعوى العبد ) مطلقا لا في حرية الأصل ولا في الحرية العارضة على ما هو الصحيح خلافا لما قاله رشيد الدين أن الدعوى عنده ليست شرطا في حرية الأصل بل في العارضة فقط ( وعندهما تقبل ) بلا دعوى ( والشهادة على عتق الأمة وطلاق المنكوحة مقبولة من غير دعوى بالاتفاق ) وإن أنكرت الأمة العتق لا يلتفت إلى إنكارها وتعتق لأنها متهمة ، وكذا على طلاق إحدى النساء مقبولة من غير دعوى بالاتفاق وإن أنكرت ، ويجبر على أن يوقع على إحداهن .

( قوله والمسألة معروفة ) وجه قولهم : إن المشهود به وهو العتق حق الشرع إذ يتعلق به تكميل الحدود ووجوب الجمعة والجهاد والزكاة ، ويصح نذره به وحلفه به ولهذا لا يحتاج إلى قبول ، ولا يرتد إقرار السيد بحرية العبد ولا يبطل بالتناقض حتى لو أقر بالرق ثم ادعى حرية الأصل وأقام البينة تقبل ، ولو كانت الدعوى شرطا لمنع لأن التناقض يبطل صحة الدعوى ، وإنما لا تكفي شهادة الواحد ; لأنه وإن كان أمرا دينيا يتضمن إزالة ملك العبد وإبطال مالية ماله ، فلذا شرط في الشهادة عليه اثنان .

ولأبي حنيفة أن العتق إما زوال الملك المستلزم لثبوت القوة من مالكيته ، أو هو نفسها ، وكلا [ ص: 507 ] الأمرين حق العبد لأنه المنتفع به على الخصوص في الحقيقة ثم بعد ذلك يثبت ما ذكر من حقوقه تعالى ثمرات لهذا الثبوت فصح كونه حقه على الخصوص في الحقيقة ، ولا يكون ثبوت اللازم إلا بعد الملزوم ، وإذا كان المستلزم حقه لا يثبت إلا بدعواه . ولا يخفى أنه يرد على هذا عتق الأمة لأنه يقال حرمة فرجها التي هي حقه تعالى تثبت بعد ثبوت حقها من العتق فوجب أن يشترط دعواها .

فإن قيل : الفرق أنها متهمة لرغبتها في صحبة مولاها حتى نقول : لو كان العبد أيضا متهما قبلت بلا دعواه ، وذلك بأن لزمه حد قذف أو قصاص في طرف حتى لو أنكر العتق لا يلتفت إلى إنكاره .

قلنا : نفرض الكلام فيما إذا لم تنكر ولكنها ساكتة لعدم علمها بحريتها ، ثم قد يمنع تأثير كون الثابت بالعتق أولا ما هو حق العبد مستلزما لحق الله تعالى في اشتراط الدعوى ، لأنه إذا ثبت استلزامه لحق الله تعالى ثبت حكمه من عدم اشتراط الدعوى سواء ثبت أولا أو ثانيا ; فإن حول التقرير هكذا العتق يتضمن حق العبد وحق الله سبحانه وتعالى ، أما حقه سبحانه فما ذكرتم ، وأما حق العبد فلأنه يصير به مالكا لأكساب نفسه فيتمكن من إقامة مصالحه وتثبت ولاياته من نفاذ قوله في الشهادة وإنكاح بنته وحصول الميراث له إذا مات قريبه ، فهو بما فيه من حق العبد يحتاج إلى الدعوى وإن لم يحتج إلى دعوى بما فيه من حق الله تعالى ، على أن الاستدلال بعدم الارتداد بالرد وعدم التوقف على قبوله لا يستلزم كونه حق الله سبحانه وتعالى خالصا ; ألا يرى أن العفو عن القصاص وإبراء الكفيل من حقوق العباد لا يرتد بالرد ولا يتوقف على القبول ، وكذا التناقض فإن عدم منعه لخفاء رق الأصل وحريته كما في دعوى النسب ولو لم يكن ذلك فلما أنه لما اجتمع في العتق الحقان فلحق الله تعالى ، قلنا : لا يمنع التناقض في حرية الأصل ولا في الحرية العارضة ، ولحق العبد شرطنا الدعوى والشاهدين أيضا .

ورد عليه أيضا عتق الأمة فإن فيها الحقين فتجب الدعوى والشاهدان لحق العبد ، ولا يمنع التناقض لحق الله سبحانه ، وأيضا إذا كان بما تضمنه من حق العبد يحتاج إلى الدعوى لا يلزم ثبوتها لأنه بما فيه من حق الله يعارضه ; لأن الثابت معه عدم الاحتياج إلى الدعوى وإنهما يتعارضان ، لأنه إذا وقعت الشهادة بلا دعوى في حق الله تعالى اقتضى وجوب ترتيب مقتضاها والآخر يقتضي أن لا يثبت . والحق أن المنظور إليه اجتماع الحقين وتعارض مقتضاهما ، فترجح ما ثبت شرعا لاحتياط في أمره وتوكيده ، وأمر الفروج محتاط فيه ، فالاحتياط أن لا يتوقف إثباته بعد الشهادة على شيء آخر ، بخلاف ما لم يثبت فيه مثله ، فلذا وقع الفرق عنده بين عتق الأمة والطلاق وبين عتق العبد ، لأن حقه سبحانه الثابت وهو حرمة الاسترقاق المقتضي لنفي الدعوى ليس [ ص: 508 ] من التأكيد بحيث يجب أن يثبت بلا دعوى ، وهما يقولان جميع حقوق الله تعالى يجب أن تثبت بلا دعوى لأنه تعالى هو الخصم فيها والعبد الشاهد نائبه فتضمن شهادته دعواه ، وأما حق العبد فإن افتقر ثبوته إلى الدعوى فقد انتصب النائب عن الله تعالى نائبا عنه ، وهذا القدر يحصل به المقصود ، فإن المثبت في الحقيقة ليس إلا الشهادة وإنما يبقى فيه ما لو أنكر العبد العتق ولا تهمة ، وحينئذ يجب الترجيح ويترجح حقه سبحانه وتعالى . ولا يقال : المقرر ترجح حق العبد .

لأنا نقول : ذلك عند التعارض بأن كان ثبوت أحدهما ينتفي معه الآخر وهنا يثبت حق العبد مع حق الله تعالى ، بل إذا أثبتنا حق الله تعالى كان إثباتا لحق العبد سابقا عليه وإنما فيه أنه يثبت على رغمه .

( قوله وإذا كان دعوى العبد شرطا عنده لا تتحقق في مسألة الكتاب ) أي الجامع الصغير ، وهي ما إذا شهدا أنه أعتق أحد عبديه لأنه عتق المجهول ( والدعوى من المجهول لا تتحقق ) وإنما تتحقق من المعين فتنتفي المطابقة بين الدعوى والبينة ، وعندهما ليس شرطا مطلقا فتقبل ويجبر على تعيين أحدهما .

( قوله ولو شهد أنه أعتق إحدى أمتيه إلخ ) جواب عما قد يقال إذا كانت الدعوى ليست بشرط عنده في الشهادة على عتق الأمة فينبغي أن تقبل على عتق إحدى أمتيه ، والواقع أنها لا تقبل عنده . أجاب بأنه إنما لا يشترط الدعوى في الشهادة على عتق الأمة المعينة لما فيه من تحريم فرجها على مولاها وهو حق الله تعالى خالصا ( فشابه الطلاق ) وفيه لا يشترط للشهادة به الدعوى لذلك فكذا هذا ( والعتق المبهم لا يوجب تحريم الفرج عنده على ما ذكرناه ) فانتفى المسقط فيه فصار كالشهادة على عتق [ ص: 509 ] أحد العبدين . فإن قيل : لو كانت علة سقوط الدعوى في عتق الأمة تحريم فرجها على المعتق لشرطت في عتق الأمة المجوسية والتي هي أخته من الرضاع وفي الشهادة على الطلاق الرجعي ، لأن الشهادة بذلك لم تتضمن تحريم فرجها لحرمته في الأوليين قبل الشهادة وحلها في الرجعي بعدها .

فالجواب أنه يثبت بالشهادة بعتقها نوع آخر من التحريم ، فإن وطء الأخت من الرضاع المملوكة ليس بزنا حتى لا يلزمه الحد بوطئها قبل عتقها وبعده يلزمه ، والطلاق الرجعي ينعقد به سبب حرمة فرجها فأثبتت تحريما مؤجلا بانقضاء العدة ، وأما الأمة المجوسية فينبغي أن تشترط الدعوى عنده ، وما قيل إن وطأها مملوك له وإنما منع منه خبثها كالحائض فبالشهادة يمتنع ذلك الوطء فيه ما فيه ( قوله وهذا كله إذا شهدا بعتق أحد العبدين في صحته ) .




الخدمات العلمية