الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن قال لغلام لا يولد مثله لمثله هذا ابني عتق عند أبي حنيفة رحمه الله ) وقالا : لا يعتق وهو قول الشافعي رحمه الله [ ص: 440 ] لهم أنه كلام محال الحقيقة فيرد فيلغو كقوله أعتقتك قبل أن أخلق أو قبل أن تخلق . ولأبي حنيفة رحمه الله أنه كلام محال بحقيقته لكنه صحيح بمجازه لأنه إخبار عن حريته من حين ملكه ، وهذا لأن البنوة في المملوك سبب لحريته ، إما إجماعا أو صلة للقرابة ، وإطلاق السبب وإرادة المسبب مستجاز في اللغة تجوزا ، ولأن الحرية ملازمة للبنوة في المملوك والمشابهة في وصف ملازم من طرق المجاز على ما عرف فيحمل عليه تحرزا عن الإلغاء ، بخلاف ما استشهد به لأنه لا وجه له في المجاز فتعين الإلغاء ، وهذا بخلاف ما إذا قال لغيره قطعت يدك فأخرجهما صحيحتين حيث لم يجعل مجازا عن الإقرار بالمال والتزامه وإن كان القطع سببا لوجوب المال لأن القطع خطأ سبب لوجوب مال مخصوص وهو الأرش ، وأنه يخالف مطلق المال في الوصف [ ص: 441 ] حتى وجب على العاقلة في سنتين ولا يمكن إثباته بدون القطع ، وما أمكن إثباته فالقطع ليس بسبب له ، أما الحرية فلا تختلف ذاتا وحكما فأمكن جعله مجازا عنه . [ ص: 442 ] ولو قال : هذا أبي أو أمي ومثله لا يولد لمثلهما فهو على الخلاف لما بينا ، ولو قال لصبي صغير : هذا جدي قيل : هو على الخلاف . وقيل : لا يعتق بالإجماع لأن هذا الكلام لا موجب له في الملك إلا بواسطة وهو الأب وهي غير ثابتة في كلامه فتعذر أن يجعل مجازا عن الموجب . بخلاف الأبوة والبنوة لأن لهما موجبا في الملك من غير واسطة ، [ ص: 443 ] ولو قال : هذا أخي لا يعتق في ظاهر الرواية ، وعن أبي حنيفة رحمه الله يعتق . ووجه الروايتين ما بيناه . ولو قال لعبده هذا ابنتي فقد قيل على الخلاف ، وقيل هو بالإجماع لأن المشار إليه ليس من جنس المسمى فتعلق الحكم [ ص: 444 ] بالمسمى وهو معدوم فلا يعتبر وقد حققناه في النكاح .

التالي السابق


( قوله لهم أن هذا كلام محال ) أي معناه الحقيقي محال فيرد فيلغو نفسه ، وإذا عد لغوا لم يوجب حكما أصلا لا باعتبار الحقيقة وهو ثبوت النسب ولا باعتبار المجاز وهو ثبوت العتق ، كما أنه لما لغا قوله أعتقتك قبل أن أخلق [ ص: 441 ] لم يثبت به العتق ، وهذا بناء على أن شرط صحة المجاز عندهما تصور حكم الأصل فإن المجازي ليس محلا ، وعنده لا بل الشرط صحة التركيب لغة بأن يكون مثلا مبتدأ وخبرا ، ومن سعد بانتهاض وجهه في المبني سعد بهذا الفرع ونحوه ، وبه يعرف أن استدلال المصنف كله في غير محل النزاع لأنهم لا ينكرون أن البنوة سبب للعتق وأنه طريق المجاز ، بل يشترطان بعد ذلك شرطا آخر وهو تصور حكم الأصل : أي الحقيقي . فتحرير محل النزاع أن تقول اتفقوا على أن المجاز خلف عن الحقيقة لوجود معنى الخلف به ، والأصل أن لا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر معنى الحقيقة أو تعيين المجاز بدليل آخر . واختلفوا في جهة الخلفية ، فعندهما الخلفية بينهما في الحكم : يعني أن الحكم الذي يثبته المجاز كثبوت الحرية بلفظ هذا ابني خلف عن الحكم الذي يثبته نفس هذا اللفظ إذا كان حقيقة وهو ثبوت النسب .

وعند أبي حنيفة في التكلم : يعني نفس الكلام فيكون لفظ هذا ابني مستعملا في الحرية خلفا عن هذا ابني مستعملا في ثبوت البنوة . وقيل بل خلف عن لفظ هذا حر وهو الأصل ، والأول أوجه وإن كان معنى الآخر صحيحا لأنهم لم يحكوا خلافا سوى في جهة الخلفية ، وعلى ما قيل يكون فيها ، وفي الأصل أيضا أنه نفس اللفظ الذي هو المجاز في الاستعمال الحقيقي أو اللفظ الذي يؤدي ذلك المعنى المجازي بطريق الحقيقة .

وقال فخر الإسلام في تحرير قول أبي حنيفة : يشترط صحة الأصل من حيث إنه مبتدأ وخبر موضوع للإيجاب بصيغته ، فإذا وجد وتعذر الحمل بحقيقته إلى آخر ما ذكره ، ولا شك أن صحة الأصل من تلك الجهة مع تعذر معناه الحقيقي إنما هو في هذا ابني للأكبر منه ، أما في هذا حر فصحيح لفظه ولم يتعذر معناه الحقيقي ، واستدل لهما مرة بأنه لا بد في المجاز من انتقال الذهن من الموضوع له إلى المتجوز فيه لتوقف اللازم على الملزوم فلا بد من إمكانه وإلا استحال لأن الموقوف على المحال محال ، ومرة بالقياس على مسألة الحلف على مس السماء وشرب ما في هذا الكوز ولا ماء فيه حيث يحنث عقيب اليمين في الأولى ، وتجب الكفارة فيه دون الثانية ، فوجوب الكفارة خلف عن البر ، ولما أمكن البر في الأولى لتصور مس السماء انعقدت في حق الخلف ، ولما لم يتصور في الثانية لم تنعقد ، فرأينا الخلف يعتمد قيامه مكان الأصل ، وتارة بأن الحكم هو المقصود باللفظ فاعتبار الخلفية بين اللفظين من جهة ما هو المقصود أولى من غيره .

وأجيب عن الأول بأن توقفه على فهم الموضوع له على أنه غير مراد لينتقل عنه إلى اللازم المراد ، وفهمه لا يستلزم إمكان تحققه في الخارج . ونجيب عن الثاني أن تلك الخلفية بين حكمين شرعيين ، ومعنى خلفية حكم شرعي لآخر هو كونه إنما يتعلق شرعا بتقدير تعذر [ ص: 442 ] امتثال الأول ، وهذا فرع تعلق الأول ، وتعلق الخطاب دائر مع الإمكان الذاتي كالكفارة في الحلف على المس والتيمم للوضوء ، فلا يتصور شرعا خلف استحال أصله لأنه لا تعلق إذ ذاك ، ولم تجب في مسألة الكوز لعدم تعلق وجوب البر ، وحينئذ ظهر أنه لا ملازمة بين لزوم إمكان محل حكم شرعي لتعلق الحكم بخلفه ، ولزوم إمكان معنى وضع له لفظ لصحة استعمال ذلك اللفظ مجازا ، وظهر مما ذكرنا أن حكم اليمين الأصلي هو وجوب البر لا البر نفسه .

والجواب عن الثالث أن هذا تصرف باللفظ بأن يستعمل مرة فيما وضع له وأخرى فيما لم يوضع ، ولم يعلم من جهة أهل اللسان أنهم اشترطوا لذلك سوى وجود مشترك يجوز التجوز وهو لا يحتاج شيئا سوى إلى إدراك الحقيقي ، ثم الحاجة إلى إدراكه ليس لنفسه بل لتستعلم العلاقة فإنه ما لم يتصور لم تعلم العلاقة فكانت الحاجة إلى مجرد فهمه أيضا غير مقصود بالذات . فاشتراط إمكان وجود المعنى الحقيقي في الخارج لم يدل عليه دليل بل اللغة تنفيه فإنه يستلزم أن لا يجوز زيد أسد فإنه وزان هذا ابني للأكبر منه ، فإن معنى المركب الحقيقي مستحيل لاستحالة كون الإنسان أسدا ، والاتفاق على جوازه بل وعلى بلاغته .

وما فرق به من أن هذا مستعار بجملته ، بخلاف هذا أسد لأن المجاز في نسبته دون الألفاظ ممنوع . وإذا ثبت انتفاء هذا الشرط فإذا تكلم بكلام وتعذر الحقيقي له وللكلام طريق يتجوز به فيه تعين نوى أو لم ينو إذ لا مزاحم كي لا يلغي كلام العاقل وما نحن فيه كذلك ، فإنه يكون مجازا في معنى عتق علي من حين ملكته استعمالا لاسم الملزوم في لازمه ، ثم إن كان هذا دخل في الوجود عتق ديانة قضاء وإلا فقضاء ، ولا تصير أمه بذلك أم ولد له ، بخلاف أعتقتك قبل أن أخلق أو تخلق لأنه لا طريق فيه إلى المجاز فلغا ضرورة .

وقوله وهذا بخلاف ما إذا قال لغيره إلخ جواب عن مقيس آخر لهما ، وهو إذا كان قال لآخر قطعت يدك خطأ فأخرجهما صحيحتين فإنه يلغو هذا الكلام بالاتفاق ، ولم يجعل مجازا عن الإقرار بالمال لعدم إمكان معناه الحقيقي . فأجاب بأن لغوه ليس لتعذر الحقيقي بل لتعذر كل منه ومن المجازي لأن المال الذي انقطع سببه مال مخصوص وهو الأرش الواجب على العاقلة في سنتين ولا يمكن إثباته إلا عن حقيقة القطع فلا يمكن جعل اللفظ تجوزا بالسبب عن المسبب . والذي يمكن إثباته وهو مطلق المال ليس القطع سببا له فامتنع إيجاب المال مطلقا فلغا ضرورة ، بخلاف ما نحن فيه لأن الحرية لا تختلف ذاتها حاصلة عن لفظ حر أو لفظ ابني ، فأمكن المجازي حين تعذر الحقيقي فوجب صونه عن اللغو .

وقوله ( ولو قال هذا أبي إلخ ) جواب عما قيل : [ ص: 443 ] إنه يلغو فقال بل هو على الخلاف أيضا ، فعند أبي حنيفة يعتق ، وأما لو قال لعبده الصغير هذا جدي فأجاب عنه أولا بأنه على الخلاف ، وقيل : هو الأصح لأنه وصفه بصفة من يعتق بملكه . وثانيا بالفرق ، وأنه لا يعتق اتفاقا . وهو أن هذا الكلام لا موجب له في الملك إلا بواسطة الأب ولا وجود له في اللفظ .

( قوله ولو قال هذا أخي ) أي لعبده ( لا يعتق في ظاهر الرواية ) وعن أبي حنيفة يعتق وهي رواية الحسن . وجه الروايتين ما بيناه ، فحوالة وجه رواية الحسن على قوله : إن البنوة سبب الحرية في المملوك ، ويعرف منه وجه هذه وهو أن الأخوة سبب لعتق المملوك ، وحوالة الظاهر على قوله في هذا جدي ، وقيل لا يعتق بالإجماع لأن هذا الكلام لا موجب له في الملك إلى آخر ما ذكر .

ونظيره هنا أن هذا الكلام لا موجب له في الملك إلا بواسطة الأب أو الأم ، ولا ذكر لما به يفيد الحكم في التركيب فلا يفيد حكما ، ولأن الأخوة تقال لما بالنسب والرضاع والدين فلا يتعين النسب إلا بدليل ، حتى لو قال من أبي أو من أمي أو من النسب عتق إذا عرف هذا فلا شك في صحة الأصل المذكور ، لكن تخريج الفرع عليه قد يرد عليه منع التعيين لثبوت استعماله كثيرا في معنى الشفقة فيجب المصير إليه فلا يتعين واحد من المعنيين المجازيين أو يتعين هذا لأنه أيسر كما قررناه في يا سيدي يا مالكي لما تعذر الحقيقي لم يعتق عليه في القضاء إلا بالنية . فإن أجيب بأن اعتبار الفائدة الشرعية أولى وهي المتعينة هنا ورد عليهم هذا أخي فإنه لا يعتق به .

ودفعه بأنه مشترك بين المشارك في النسب والدين والقبيلة ، وحكم المشترك التوقف إلى القرينة ، حتى لو قال من أبي ونحوه عتق ، وبأن العتق بعلة الولاد ولا ذكر له في اللفظ ليكون مجازا عن لازمه فامتنع لعدم طريقه ، يرد عليه منع الاشتراك بل هو حقيقة في النسب مجاز في الباقيات ; ولو دار بينهما كان المجاز أولى وأن علة عتق القريب عندنا القرابة المحرمة لا خصوص الولاد ولذا يعتق في هذا خالي وعمي وهي بلا خلاف بين أصحابنا ذكره في البدائع . وفرق بينه وبين هذا أخي بأنه يحتمل الإكرام والنسب ، بخلاف العم فإنه لا يستعمل للإكرام عادة ، وهذا يقوي ما أوردناه في هذا ابني فلا يخلص إلا بترجيح رواية العتق في هذا أخي وهي ما نقلها المصنف .

( قوله ولو قال لعبده هذا بنتي ) وكذا [ ص: 444 ] إذا قال لأمته هذا ابني لا يعتق وإن كان يولد مثله لمثله ، لأن الأول مجاز عن عتق في المذكر لأنه لجهة البنتية حقيقة . والثاني عنه في الأنثى فانتفى حقيقته لانتفاء محل ينزل فيه ، ولا يتجوز بلفظ الابن في البنت وقلبه اتفاقا لعدم لازم مشهور وغيره ، ولئلا يلزم تعميم اللفظ في معنيين مجازيين أحدهما من حيث هو والآخر من حيث هو مضاف ، وقد ذكرنا فيما كتبناه على البديع أن الاتفاق على منعه اللهم إلا أن يعتبر المجاز عقليا في نفس إضافة البنت ، وكل من لفظ الإشارة والبنت والياء حقيقة ، فالتجوز في نسبة المراد بالإشارة بالبنتية إلى مسمى الياء عن نسبته إليه بالعتق فيتعين الأول ، وما ذكره المصنف بيان تعذر عتقه بطريق آخر وهو أنه إذا اجتمعت الإشارة والتسمية والمسمى من جنس المشار ، تعلق بالمشار ، وإن كان من خلاف جنسه يتعلق بالمسمى وبين هذا الأصل في باب المهر وهو الذي أراده بقوله حققناه في النكاح ، والمشار إليه هنا مع المسمى جنسان لأن الذكر والأنثى في الإنسان جنسان لاختلاف المقاصد فيلزم أن يتعلق الحكم بالمسمى : أعني مسمى بنت وهو معدوم هنا لأن الثابت ذكر .




الخدمات العلمية