الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا كانت جارية بين رجلين زعم أحدهما أنها أم ولد لصاحبه وأنكر ذلك الآخر فهي موقوفة يوما ويوما تخدم المنكر عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : إن شاء المنكر استسعى الجارية في نصف قيمتها ثم تكون حرة لا سبيل عليها ) [ ص: 485 ] لهما أنه لما لم يصدقه صاحبه انقلب إقرار المقر عليه كأنه استولدها فصار كما إذا أقر المشتري على البائع أنه أعتق المبيع قبل البيع يجعل كأنه أعتق كذا هذا فتمتنع الخدمة ونصيب المنكر على ملكه في الحكم فتخرج إلى العتاق بالسعاية كأم ولد النصراني إذا أسلمت . [ ص: 486 ] ولأبي حنيفة رحمه الله أن المقر لو صدق كانت الخدمة كلها للمنكر ، ولو كذب كان له نصف الخدمة فيثبت ما هو المتيقن به وهو النصف ، ولا خدمة للشريك الشاهد ولا استسعاء لأنه يتبرأ عن جميع ذلك بدعوى الاستيلاد والضمان ، والإقرار بأمومية الولد يتضمن الإقرار بالنسب وهو أمر لازم لا يرتد بالرد ، فلا يمكن أن يجعل المقر كالمستولد .

التالي السابق


( قوله وإذا كانت جارية بين رجلين فزعم أحدهما أنها أم ولد لصاحبه وأنكر الآخر فعند أبي حنيفة وأبي يوسف هي موقوفة يوما ) أي لا تخدم فيه أحدا ( ويوما تخدم المنكر ) ولو مات المنكر قبل تصديقه عتقت بشهادة الآخر ولا سعاية عليها له ، وتسعى لورثة المنكر في نصف قيمتها في قول أبي حنيفة ، كذا ذكره الفقيه أبو الليث . ووجه [ ص: 485 ] هذا التفريع أنه عند موت الشريك كأنه قال عتقت الجارية من جهة شريكي ، ولو قال أحد الشريكين في حياة صاحبه أعتق شريكي نصيبه ، فإنه إن لم يتمكن من تضمينه إن كان موسرا وهو منكر لكنه يفسد الرق فيه لأنه لما كان متمكنا من إفساده بإعتاقه اعتبر إقراره بفساده ثم يسعى العبد في تمام قيمته بينهما في قول أبي حنيفة موسرين كانا أو معسرين أو أحدهما موسرا والآخر معسرا ، وعندهما كذلك إن كان المقر عليه معسرا ، فإن كان موسرا سعى له ولم يسع للمقر لأنه معترف بأن لا حق له في السعاية بل في تضمين الشريك وهو عاجز عنه لإنكاره ولا بينة له .

وقال محمد : إن شاء المنكر استسعى الجارية في نصف قيمتها ثم تكون حرة لا سبيل عليها . وضمه في الكتاب قول أبي يوسف مع محمد بقوله وقالا باعتبار قول مرجوع لأبي يوسف ، ولا ينبغي مثله أن يفعل إلا أن يقرن بالبيان فيقال في قوله الأول مثلا وإلا أوهم أن ينسب إليه الآن ما ليس هو قائلا به . واختلف المشايخ في أن خدمة المنكر هل هي واجبة عليها على قول محمد وأبي يوسف ؟ الأول والصواب أن لا خدمة له عليها بل بمجرد إقرار المقر صار حق المنكر في سعايتها وتخرج بها إلى الحرية . وفي المختلف في باب محمد أن نفقتها في كسبها ، فإن لم يكن لها كسب فنفقتها على المنكر ، ولم يذكر خلافا في النفقة . وقال غيره : نصف كسبها للمنكر ونصفه موقوف ونفقتها من كسبها ، فإن لم يكن لها كسب فنصف نفقتها على المنكر لأن نصف الجارية للمنكر ، وهذا اللائق بقول أبي حنيفة . وينبغي على قول محمد أن لا نفقة لها عليه أصلا لأنه لا خدمة له عليها ولا احتباس ، وأما جنايتها فتسعى فيها على قول محمد كالمكاتب وتأخذ الجناية عليها : أي تأخذ جنايتها ممن جنى عليها لتستعين بها ، وعلى قول أبي حنيفة جنايتها موقوفة إلى تصديق أحدهما صاحبه .

( قوله لهما أنه لما لم يصدقه صاحبه انقلب إقراره عليه فصار كأنه هو استولدها . كما لو أقر المشتري على البائع أنه أعتق المبيع قبل البيع يجعل كأنه هو الذي أعتق ) حتى لو اشتراه عتق عليه ، وإذا صار له حكم المستولد امتنع الاستخدام على المنكر كما لو استولدها المقر حقيقة فإنه لا يكون للآخر الاستخدام ، والمقر أيضا امتنع عليه الاستخدام لأنه يدعي الملك على المنكر ، وإذا امتنع الاستخدام على المنكر والحال أن نصيبه على ملكه في الحكم ثبت له حق استسعائها لاحتباس ماليتها ومنافعها عندها ، ولا وجه إلى تضمين شريكه ، فإذا استسعاها فلا سبيل لأحد عليها ، فإن المنكر أخذ حصته والمقر يبرئها [ ص: 486 ] منه ويدعي أن حقه في تضمين المنكر لدعواه الاستيلاد فصارت كأم ولد النصراني إذا أسلمت لما امتنع بإسلامها مقاصد الملك عليه ولم يكن إخراجها عن ملكه مجانا للإضرار به وجب أن تعتق بالسعاية .

( قوله ولأبي حنيفة ) وعلمت أن أبا يوسف معه ( أن استحقاق المنكر نصف خدمتها ثابت بيقين ) لأن المقر إما صادق فيكون جميع خدمتها له لأنها أم ولده وهو مستحق خدمتها ، أو كاذب فله نصفها والآخر للمقر فاستحقاقه نصفها متيقن . وأما الشريك المقر فلا استخدام له عليها ولا استسعاء لأنه يبرئها عن جميع ذلك بدعوى الاستيلاد والضمان على شريكه ، وهو لف ونشر مرتب . وقولهما انقلب إقراره عليه . قلنا ممنوع لأن الإقرار بأمومية الولد إقرار بالنسب ( وهو أمر لازم لا يرد بالرد فلا يمكن أن يجعل المقر كالمستولد ) بنفسه حكما ، نعم يوجب ذلك أن يؤاخذ بإقراره فيمتنع استخدامه واستسعاؤه وقد قلنا بذلك ، ولا يسري قوله في حق شريكه فيبقى حقه على ما كان وعتق العبد عليه لو اشتراه من هذا لإقراره على نفسه لا من الانقلاب ، وحاصله منع الانقلاب . والجواب عما استدل به عليه .




الخدمات العلمية