الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
. ( وإذا انقطع الدم من الحيضة الثالثة لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل ، وإن انقطع لأقل من عشرة أيام لم تنقطع الرجعة حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل ) لأن الحيض لا مزيد له على العشرة ، فبمجرد الانقطاع خرجت من الحيض فانقضت العدة وانقطعت الرجعة ، وفيما دون العشرة يحتمل عود الدم فلا بد أن يعتضد الانقطاع بحقيقة الاغتسال أو بلزوم حكم من أحكام الطاهرات بمضي وقت الصلاة ، بخلاف ما إذا كانت كتابية لأنه لا يتوقع في حقها أمارة زائدة فاكتفى بالانقطاع ، وتنقطع إذا تيممت وصلت عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ، وهذا استحسان وقال محمد رحمه الله : إذا تيممت انقطعت ، وهذا قياس لأن التيمم حال عدم الماء طهارة مطلقة [ ص: 167 ] حتى يثبت به من الأحكام ما يثبت بالاغتسال فكان بمنزلته . ولهما أنه ملوث غير مطهر ، وإنما اعتبر طهارة ضرورة أن لا تتضاعف الواجبات ، وهذه الضرورة تتحقق حال أداء الصلاة لا فيما قبلها من الأوقات ، [ ص: 168 ] والأحكام الثابتة أيضا ضرورية اقتضائية ، ثم قيل تنقطع بنفس الشروع عندهما ، [ ص: 169 ] وقيل بعد الفراغ ليتقرر حكم جواز الصلاة

التالي السابق


( قوله أو يمضي عليها وقت صلاة ) أي بأن يخرج وقتها الذي طهرت فيه فتصير دينا في ذمتها ، فإن كان الطهر في آخر الوقت فهو ذلك الزمن اليسير ، وإن كان في أوله لم يثبت هذا حتى يخرج لأن الصلاة لا تصير دينا إلا بذلك ، وعلى هذا لو طهرت في وقت مهمل كبعد الشروق لا تنقطع الرجعة إلى دخول وقت العصر . ( قوله بخلاف ما إذا كانت كتابية ) فإنه لا يتوقع في حقها أمارة على الخروج من الحيض زائدة على مجرد الانقطاع لأن الغسل والصلاة ليسا واجبين عليها ، فبمجرد الانقطاع وإن كان لما دون العشرة حل وطؤها وانقطعت رجعتها ( قوله وتنقطع إذا تيممت وصلت ) أي فرضا أو نفلا [ ص: 167 ] عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ( قوله حتى يثبت به من الأحكام ) برفع ( يثبت ) لأن حتى هنا ليست للغاية بل للتعليل ، والمراد بالأحكام جواز الصلاة والتلاوة ودخول المسجد ومس المصحف ، وهذه أحكام الغسل فكان التيمم مثله ، ثم انقطاع الرجعة مما يؤخذ فيه بالاحتياط ، ولذا لو اغتسلت وبقيت لمعة انقطعت ، وكذا لو اغتسلت بسؤر الحمار مع وجود الماء المطلق ولم تتيمم تنقطع الرجعة مع عدم جواز الصلاة به فانقطاعها بالتيمم وبه تجوز الصلاة أولى .

ولا يشكل عليه أنه لا يحل لها التزوج بآخر بالاتفاق لأن التيمم وإن قام مقام الغسل هو أضعف منه .

والاحتياط في التزوج عدم جوازه معه وفي الرجعة انقطاعها معه حتى لا يأتيها رجل في شبهة ( قوله ولهما أنه ملوث غير مطهر ) أي حقيقة لا شرعا كذا في الدراية .

ولنفصل هذا المقام ليندفع ما يخال من المناقضة للأوهام مستعينا فيه بالملك العلام مصليا على سيدنا نبينا محمد أفضل الرسل الكرام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام فنقول : هذا البحث له ثلاثة موارد في الفقه : أولها باب التيمم في البحث مع الشافعي في جواز الفرائض المتعددة بتيمم واحد عندنا خلافا له ، وهو مبني أن التيمم طهارة مطلقة أو لا ، فقال إنها ضرورية تثبت ضرورة أداء المكتوبة به فيتقدر بقدرها فلا يبقى بعدها .

فاتفق أئمتنا في جوابه على أنها مطلقة تعمل عمل الماء ما بقي شرطه .

وصرح في النهاية في تقريره بأن التيمم مزيل للحدث من كل وجه ما بقي شرطه وهو العدم كالماء ، إلا أنه بالماء مقدر إلى وجود الحدث ، وهنا إلى شيئين الحدث والماء .

ثانيها باب الإمامة في مسألة اقتداء المتوضئ بالمتيمم فافترقوا فيها ، فقال محمد : هي ضرورية فلا يجوز اقتداء المتوضئ به ، وقالا : مطلقة فيجوز .

وثالثها هنا فافترقوا أيضا إلا أنهم عكسوا كلمتهم ، فتراءى لمحمد وجهان من المناقضة : أحدهما قوله في الإمامة ضرورية بعدما اتفقوا عليه في جواب الشافعي من أنها مطلقة .

والثاني أن بعدما قال في الإمامة إنها ضرورية قال هنا مطلقة .

ولهما وجه من المناقضة وهو قولهما هناك مطلقة وهنا ضرورية ملوثة ، وكثير من الشارحين يأخذ في تقرير قولهما أنه لا يزيل الحدث بيقين ، ولهذا عند رؤية الماء إنما يصير حدثا بالحدث السابق فقد ناقضوا جميعا .

والجواب أنه لا شك أن في التيمم جهة الإطلاق وجهة الضرورة ، وفيه أيضا أنه ملوث في نفسه مغبر لا يطهر : أي لا ينظف ، فمعنى الإطلاق أنه يزيل الحدث مطلقا كالماء إلى غاية أحد الأمرين من وجود الحدث أو الماء ، ومعنى الضرورة أن شرعيته ضرورة أداء المكتوبات وعدم تفويتها وتكثير للخيرات عند عدم الماء إكراما لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأمته ، ولذا كان من الخصائص ، وهذا لا يفيد الإخلال بمعنى الإطلاق إذ حاصله أنه بيان سبب شرعيته .

ولما شرع للضرورة والحاجة التي ذكرنا شرع كما شرع استعمال الماء وإنما يفيد ضعفه وانحطاطه عن التطهير بالماء ، وأما كونه ملوثا ومغبرا فهو بسبب عدم شرعيته ابتداء كالماء حتى يكون المكلف مخيرا بين الماء والتراب ابتداء ، فإنه لما كان المقصود من شرعية الوضوء تحسين الأعضاء الظاهرة وتنظيفها للقيام بين يدي الرب جل وعلا والتراب لا يفيد ذلك بل ضده لم يشرع إلا للضرورة المتحققة من الحاجة إلى الأداء مع عدم الماء تكريما لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فذكر التلويث وعدم تطهيره في نفسه ذكر سبب كونه مشروعا للحاجة المذكورة .

إذا علمت هذا فقولهم مع الشافعي إنها مطلقة : أي تزيل الحدث ، ويستباح به كل ما يستباح بالماء على [ ص: 168 ] الوجه الذي يستباح به لينتفي به قصر الصحة به على فرض واحد لا ينافي قولهم إنها ضرورية على ما سمعت ، فمن قال إنها مطلقة في موضع وقال في آخر إنها ضرورية لم يكن مناقضا أصلا .

وقول من ذكر في تقريره إنه لا يرفع بيقين حاصله أنه فرق بينه وبين الماء فإن الماء يرفعه بيقين ، وهذا يرفعه ظنا للخلاف في أن الحدث أمر حقيقي أو مجرد مانعية ، فعلى الأول لا يرفعه إلا الماء وحين قيل به صار محل اجتهاد ، غير أن الراجح هو الظن .

والثاني لما قدمنا في باب التيمم من الحديث والمعنى ، وهو أنه لم يقدر أحد على إثبات أن الحدث وصف حقيقي قائم بالأعضاء زائد على نفس المانعية الشرعية ، وعلى هذا فلا إشكال في ارتفاعه بالتيمم ، وكون الحدث يظهر بعينه عند رؤية الماء لا يستلزم عدمه ، إذ قدمنا أن الحدث اعتبار شرعي فله أن يقطع ذلك الاعتبار إلى غاية ثم يعيده بعينه عند رؤية الماء ، والدليل الملجئ إلى هذا كون رؤية الماء لا يعقل وجه كونها نفسها حدثا ثم النظر في وجه تعيين كل منهم إحدى الجهتين بخصوص ذلك الموضع الذي عينه فيه ، فأما وجه تخصيص محمد فهو أنه رأى وجوب الاحتياط في الموضعين ، فالاحتياط في اقتداء المتوضئ بالمتيمم أن لا يصح ، ولا يعلل هذا إلا بجهة الضرورة فاعتبر لها فيقول : لما كانت ضرورية حيث كانت تنتقض بوجود الماء ولا تثبت إلا مع عدمه كانت ضعيفة بالنسبة إلى طهارة الماء فيكون الاقتداء والحالة هذه بناء القوي على الضعيف .

وفي الرجعة الاحتياط في انقطاعها ولا يعلل إلا بجهة الإطلاق فاعتبر هاهنا ، وهما لما عكسا الحكم في الموضعين لم يكن من عكس المبني فيهما بد ، والباقي بعد هذا إنما هو النظر في الترجيح في الخلافين في الحكم .

وعندي أن قولهما في الاقتداء أحسن من قول محمد ، وقول محمد في الرجعة أحسن من قولهما لأن الضعف الكائن في طهارة التيمم لم يظهر قط له أثر في شيء من الأحكام عندنا ، فعلمنا أنه شيء له في نفسه فيجوز اقتداء المتوضئ به وتنقطع به الرجعة خصوصا والاحتياط في ذلك واجب .

هذا ولقائل أن يقول : إن اشتراط الغسل بعد الانقطاع لتمام العادة قبل العشرة يرده الدليل وهو قوله تعالى : { ثلاثة قروء } لخلوه عن اشتراطه ، فاشتراطه لانقضاء العدة يرده النص .

فإن أجيب بأن تعين الانقضاء منتف لفرض أنه ليس أكثر الحيض واحتمال عود الدم دفع بأن هذا الاعتبار الزائد لا يجدي قطع هذا الاحتمال لا في الواقع ولا شرعا ، لأنها لو اغتسلت ثم عاد الدم ولم يجاوز العشرة كان له الرجعة بعد أن قلنا انقطعت الرجعة فكان الحال موقوفا على عدم العود بعد الغسل كما هو كذلك قبله .

ولو راجعها بعد هذا الغسل الذي قلنا إنه به تنقطع الرجعة ثم عاودها ولم يجاوز العشرة صحت رجعته ، وكذا الكلام في التيمم فليس جواب المسألة في الحقيقة إلا مقيدا ، هكذا إذا انقطع لأقل من عشرة ولم يعاودها أو عاودها وتجاوزها ظهر انقطاع الرجعة من وقت الانقطاع لانقضاء العدة إذ ذاك حتى لو كانت تزوجت قبل الغسل ظهر صحته ، وإن عاودها ولم يتجاوز فالأحكام المذكورة بالعكس ، والله أعلم ( قوله والأحكام الثابتة أيضا ضرورية اقتضائية ) إذ حل دخول المسجد والقراءة من ضرورة حل الصلاة ومقتضاه ، [ ص: 169 ] وكذا اللمس لأنه قد يحتاج إلى مس المصحف للقراءة في الصلاة لنسيان أو غلط أو زيادة إتقان ، وكذا سجدة التلاوة ركن من الصلاة وقد تجب في الصلاة ( قوله وقيل بعد الفراغ ليتقرر الحكم بجواز الصلاة ) قال في المبسوط : وهو الصحيح ، فإن فسادها قبل الفراغ محتمل لاحتمال رؤية الماء فيها ، ولو تيممت وقرأت أو مست المصحف أو دخلت المسجد ، قال الكرخي : تنقطع به الرجعة لأن صحة هذه حكم من أحكام الطاهرات ، وقال الرازي : لا تنقطع به




الخدمات العلمية