الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      محاولة لرسم العلاقة مع الغرب

      منذ أكثر من قرن ونحن نحاول رسم العلاقة مع الغرب، حضارة وسياسة، ولكن خط السـير بقي متعرجا، يشده البعض شمالا، والبعض جنوبا، البعض لا يري هذه العلاقة مطلقا، بينما يطمع بعض في الذوبان بهذا الغرب، ويتصور أن ذلك هو قدرنا، الذي لا مفر منه، ولا نجاة بغيره.

      سؤال: هل يمكن رسم هذه الخارطة بشيء من الوضوح كي يضع القارئ أصبعه على الحروف، كما يقال؟

      جواب: نعم، ولكن نريد أن يكون معلوما أن الهدف ليس التشنيع على أحد ولا ذمه، فخلف الأفكار أناس يؤمنون بها، ويعملون على نشرها ليل نهار، ولذا فهي ليست من الأسرار، ولا مما يخجلون منها، والمطلوب فقط الأمانة في النقل، وعدم تحميل الكلام فوق ما يحتمل وبعده، أن لا تجري محاكمة النيات، ولا اعتماد الأعداء والمخالفين مصادر للأقوال، فنحن نعلم طلبتنا مثلا: أن لا يأخذوا أقوال مذهب فقهي من كتب مذهب آخر، مع أننا لا نتهم أحدا بالكذب أو افتعال الأقوال، ولكن سلامة المنهج تقتضي أخذ الرأي من كتب المذهب ذاته، وليس من كتب مذهب آخر.

      سـؤال: هـذا أمـر جيـد ولا غـبـار عـلـيـه، بل لا يـسـع أحد أن يرفضه أو يشكك فيه، فما الأمثلة؟ [ ص: 95 ]

      جواب: هذه عينة فهذا الدكتور زكي نجيب مثلا يقول [1] : "لقد لبثت أعـواما لا أرى للحيـاة القومية المزدهرة إلا صـورة واحدة، هي صورة الحياة كما يحياها من أبدعوا حضارة العصر، فلقد شاءت تطورات التاريخ أن يكون هؤلاء المبدعون هم أبناء أوروبا وأمريكا، فهناك ولد العصر، بعلومه وفنونه ونظمه، ولـهذا فقد أصبحت سـائر شعوب الأرض إنـما تقاس بـمقدار قربـها أو بعدها من الطراز الغربي القائم، هكذا كان الرأي عندي حتى أواسط الستينيـات، وقد بلغت فيه حـد التطرف، الـذي لم يعرف لنفسـه حيطـة أو حـذرا، وكان الأمر يبـدو أمام ذهـني وكأنه من البدهيات، التي لا حاجة بها إلى مزيد من البحث والتأمل".

      فالرجل يتحدث بنفسه عن قناعاته، وهو يمثل فريقا مثله، يؤمن وما يزال يؤمـن بأن لا طريق لنا سوى متابعة الغرب وأخذ كل ما عنده، حلوه ومره، كما ذكر الدكتور طه حسين، وهناك من يندفع أكثر من ذلك، فهذا "سلامة موسى" الكاتب المصري، يقول مثلا [2] : إنه لا يعتقد بوجود ثقافة غير ثقافة الـغـرب، وكل ما سواها فهي ثقافة استبدادية، وهي أساس البلاء في الشرق، لذا يجب أن نقتبس كل ما في الثقافة الغربية".

      وهـذا الحمـاس نجـده لدى كثير من أبناء الأقليات الدينية والعرقية، ولدى بعض أبنائنا أيضا. [ ص: 96 ]

      وقد قام "صفوت حاتم" بعمل مسح لمن يؤمن بهذا التوجه في مطلع القرن العشرين عندنا، فوجد ثلاث جماعات [3] :

      أولا: مدرسة العلمانية الإسلامية وشعارها "التحديث والعلمنة" وأبرز رجالها دكتور طه حسين ومحمد حسين هيكل ولطفي السيد وآخرون.

      ثانيا: مدرسة التغريب الرافضة لروح التوفيق الإسلامي.

      ثالثا: المدرسة القومية.

      وأترك الرد والمناقشة للدكتور برهان غليون، إذ يقول [4] : لم يكن الانزلاق من تقديس العلم إلى رفض التراث باعتباره مرادفا للقدم والتأخر، وتوحده مع الدين، لم يكن أمرا صعبا أو غير متوقع، بل يمكن القول: إن نظرية النهضة قد انتقلت، تدريجيا وعفويا، من فكرة تأكيد العلم كمصدر للحضارة، إلى فكرة أن التراث والدين والتقاليد هي مصدر الانحطاط، وصار الاجتهاد لإدخال العلم إلى المجتمع العربي يتوقف، هو ذاته، على النجاح في تحطيم هذه البنى القديمة، وبذا تكون معركة النهوض قد تحولت من ترجمة العلوم وإفساح المجال لها في صلب الدين والتقاليد والتراث، إلى العمل على إزالة هذه التقاليد وتصفيتها، لذلك يستنتج (سلامة موسى) أن أعظـم العقبات، التي تؤخرنا كما تؤخر كثيرا من أمم آسيا هي هذه الرواسب الثقافية والتقاليد والغيبيات، [ ص: 97 ] من فرعونية وبابلية وأمثالها.. وليس لذلك من دواء سوى العلم، فهو نار كاوية، تحرق جميع الرواسب وتبدد عفنها هباء.

      ومع هذا الموقف المعادي للتراث، وموقف رفض الذات، والتماهي مع الآخر، لم تبق إلا خطوة واحدة، وقد قطعها دكتور طه حسين حيث فتح في أيديولوجية التقدم العربي بابا لن يغلق بعده، يقول طه حسين: إن مستقبل مصـر مرهون بأخذها مثل الحضارة الإنسانية والفضائل المدنية والدمقراطية، كما مثلها الغرب، وعلى مصر أن تصبح جزءا من أوروبا، وأن تسير سيرتـهم في الحكم والإدارة والتشريع، علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء.... إن طه حسين يقدم حلا سحريا، إذ يكفي الانتماء إلى الغرب وحضارته عناء الصراع الدائم من أجـل معرفـة مـاذا نأخـذ ومـاذا نترك، وما هـو الصـالح وما الطـالح في الفكر الأوروبي؟ ......

      ونستطيع أن نقول: إن هذه "الفتوى" قد وجدت أكثر من أذن صاغية، ولدى أكثر من نصير للتقدم العربي، بل هناك من فسر هذا النداء كدعوة إلى الرقابة على الضمير، وتشريع تغيير وتبديل لاعتقادات الناس قسرا، وذلك لأن المجتمع العربي ما يزال في بنيته الأيديولوجية الغالبة مجتمعا تقليديا، غير أنه يتحرك أيديولوجيا بقيادة أقلية طليعية في اتجاه التحديث".

      هذا التصور يبسط القضية أولا، ويرفع العتب والمسؤولية، فما علينا من أجل التقدم إلا أن نأخذ ما في الغرب، وعندها سنتقدم.. والجواب كل العالم يأخذ عن الغرب، ومع ذلك فكل في مكانه، متقدمهم ومتأخرهم.. القضية بحاجة إلى منهج واضح يقول: نأخذ كذا ونترك كذا ونعمل كذا. [ ص: 98 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية